في السنوات الأخيرة، تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى فضاءات جديدة لإنتاج أنماط مبتكرة من التفاعل الإنساني، ليس فقط على مستوى الترفيه أو تبادل المعرفة، بل أيضا في مجالات أكثر حساسية مثل التسول الإلكتروني. ويعد تطبيق “تيك توك” من أبرز الساحات التي برز فيها هذا السلوك، خاصة عبر البث المباشر (Live)، حيث يعرض بعض المستخدمين أنفسهم في أوضاع مصطنعة لإثارة التعاطف أو استجداء الهدايا الافتراضية التي تتحول لاحقا إلى أموال حقيقية.
في علم الاجتماع، يصف بيير بورديو المجتمع المعاصر بأنه قائم على رؤوس أموال متعددة (اقتصادية، اجتماعية، ورمزية). وإذا كان التسول التقليدي يرتكز على رأس المال الاجتماعي – أي إثارة الشفقة المباشرة – فإن التسول الإلكتروني يستثمر في رأس المال الرمزي عبر آليات جديدة مثل:
توظيف الصورة والبث الحي كوسيلة لبناء علاقة شبه شخصية مع المتابع.
الاعتماد على اقتصاد الانتباه، حيث يصبح التفاعل (الإعجابات، الهدايا، التعليقات) مصدرا للربح.
إعادة إنتاج “ثقافة الحاجة” ولكن في قالب ترفيهي، ما يجعل الفعل يبدو أقل “وصمة” وأكثر قبولا داخل الفضاء الافتراضي.
الدلالات النفسية: الحاجة إلى الاعتراف
من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن قراءة هذه الظاهرة بوصفها تعبيرا عن حاجة الفرد للاعتراف والقبول. فالمتسول الإلكتروني لا يسعى فقط إلى المال، بل أيضا إلى شعور بالوجود من خلال المشاهدة والتفاعل. وهنا يحضر مفهوم “التعزيز الإيجابي” في النظرية السلوكية لــ “سكنر”، حيث يصبح الحصول على هدية افتراضية أو تعليق داعم بمثابة محفز نفسي للاستمرار في نفس السلوك.
كما يمكن ربط الظاهرة بما يسميه إريك فروم “مجتمع الاستهلاك”، إذ يعاد إنتاج الفقر والحاجة ضمن مشهد استعراضي، حيث يصبح المتابع جزءا من لعبة استهلاكية تقوم على إشباع لحظي للشعور بالتفوق أو الرحمة.
الأبعاد الاجتماعية: أزمة قيم أم تكيف رقمي؟
يثير التسول الإلكتروني سؤالا جوهريا: هل هو أزمة قيم تعكس تراجع ثقافة الكرامة والعمل المنتج؟ أم أنه مجرد تكيف رقمي مع اقتصاد افتراضي جديد يتيح لكل فرد فرصة “العيش من اللايف”؟
في المقاربة السوسيولوجية، يمكن النظر إليه كأحد مظاهر “الهشاشة الاجتماعية الرقمية”، حيث تلتقي البطالة، الفقر، والرغبة في الصعود السريع مع منطق منصات التواصل. وفي السياق المغربي والعربي، تعكس هذه الظاهرة فجوة بين القيم التقليدية للتكافل الاجتماعي وبين القيم الجديدة التي تشرعن التسول الرقمي باعتباره “مصدر دخل مشروع”.
نحو مقاربة شمولية
لمواجهة الظاهرة، لا تكفي الحلول التقنية مثل حظر الحسابات، بل هناك حاجة إلى:
تأطير قانوني يحدد الفرق بين حرية التعبير وبين الاستغلال الرقمي لضعف الفئات الهشة.
تربية إعلامية تعلم الأجيال الجديدة كيف يميزون بين المحتوى الإبداعي وبين المحتوى المبني على استجداء عاطفي.
برامج اجتماعية تستهدف معالجة الجذور الاقتصادية والنفسية للظاهرة.
إن التسول الإلكتروني عبر لايفات “تيكتوك” ليس مجرد سلوك فردي شاذ، بل هو مؤشر على تحولات أعمق في علاقتنا بالفضاء الرقمي، حيث تختلط الحاجة بالعرض، والاقتصاد بالعاطفة، والبحث عن الاعتراف بالبحث عن الدخل. وبين مقاربة علم الاجتماع التي ترى فيه انعكاسا للهشاشة، ومقاربة علم النفس التي تكشف عن حاجات غير مشبعة للاعتراف، تبقى الظاهرة مرآة لأزمة قيم تتطلب معالجة جذرية.