الصدمة القطرية
الآن وقد انقشع غبار الهجوم الجوي على قطر، يفترض أن حدة الانفعالات وردود الفعل العاطفية قد خفت وفسحت مجالها للتفكير المتأني والهادئ لمحاولة فهم أسباب تجرؤ الاحتلال الصهيوني على قصف العاصمة الدوحة رغم الاتفاقيات الأمنية والعسكرية الضخمة مع حليفتها المفترضة أمريكا والقاعدة العسكرية الأمريكية بها، إضافة إلى ملايير الدولارات التي أغدقتها على الرئيس ترامب خلال زيارته للمنطقة. هذا فضلا عن دورها المحوري في عملية الوساطة من أجل وقف حرب الإبادة المستمرة على غزة منذ ما يقارب سنتين.
ما بعد الصدمة
لم تكد تتبدد مخرجات القمة العربية الإسلامية حتى أعلنت قطر المعتدى عليها من طرف الكيان الصهيوني وبتواطؤ وتنسيق أمريكيين حسب بعض التقارير الصحفية، ارتماءها من جديد في حضن من كان سببا في انكشافها وربما ساعد في التخطيط لضربها. في المقابل سارعت المملكة العربية السعودية إلى إبرام اتفاقية الدفاع الاستراتيجي مع باكستان وتنص صراحة على الدفاع المشترك بين البلدين في حال الاعتداء على إحداهما. يبدو أن المملكة استوعبت الدرس رغم تأخره وقساوته ومرارة تجرعه. نحن إذن أمام موقفين متباينين، أحدهما مهادن والأخر مقاوم، على الأقل هذا ما يبدو ظاهريا.
الصدمة الباكستانية
إذا عدنا إلى التاريخ القريب قليلا سنفهم الموقف السعودي. خلال سبعينات القرن الماضي فقدت باكستان ما كان يسمى حينها بباكستان الشرقية، بنغلاديش حاليًا. لم تكد تتلاشى أهوال فاجعة فقدان الأرضي حتى أعلنت الهند، العدو اللدود لها، حصولها على القنبلة النووية. كان ذلك بمثابة صدمة قوية أفاقت الباكستانيين من سباتهم فسارعوا إلى سد الفجوة وخططوا لبناء برنامج نووي عسكري في غضون ثلاث سنوات لكن الأمد طال والعبرة بالخواتيم. ساهمت دول الخليج العربي في تمويل هذا البرنامج وفي المقدمة المملكة العربية السعودية. في المحصلة، أصفر هذا التعاون، بعد التغلب على صعوبات جمة ومحاولات تخريب كثيرة من الكيان الصهيوني وأمريكا والهند، على امتلاك باكستان للسلاح النووي سنة 1998، وسمي ب:”القنبلة الإسلامية”، وهي تسمية ذات حمولة رمزية عالية، السلاح الرادع لكل هجوم غادر والمحصن الفعلي ضد من سولت له نفسه التطاول على حدودها ومواطنيها.
هذه اللمحة المقتضبة تنير قليلا ظلمة الاعتداء على قطر وتكشف أهم أسبابه وتذكرنا بما لا نريد تذكره. هناك مثل شائع عندنا بالعامية المغربية: “ما حك لك غير ضفرك”، ومعناه لا يمكنك حك جلدك سوى بأظافرك وليس بأظافر الأخرين. الظلمة ستتبدد أكثر إذا استحضرنا الأطماع الصهيونية والأمريكية في المنطقة وهي أمور يعلنونها جهارا نهارا ودون مواربة.
العبرة
ما تعرضت له قطر جاء ليذكر المنطقة برمتها، حكاما وشعوبا بما نحاول جاهدين إخفاءه عبثا. ببساطة نحن أضعف من صد أدنى هجوم من الصهاينة في الوقت الحالي. لذلك تجد من يقترح حلا بديلا يقوم على مشاغلة العدو في أفق الاستعداد لمواجهة حتمية قادمة لا محالة. لكن الواقع المر يؤكد لنا مرة أخرى أن دولنا لا تحبذ هذا التوجه وتفضل بدلا منه أن تترك لعدوها الجمل بما حمل مقابل مهادنة تكتيكية قصيرة لا ضمانة على ديمومتها، مقابل خسارة استراتيجية مدوية. الشاهد هنا، مأساة غزة الموءودة وستظل شوكتها عالقة في حلق الأمة جمعاء. وللتاريخ حكمة ما تزال ماثلة أمام أعيننا، ترسم لنا بلون الدم هيئة هولاكو وهو يدمر بغداد ويقبض على الخليفة المستعصم في حجرته ويقوده ذليلا إلى مخابئ الأموال ثم يقتله!
إذا صارت السعودية على مسار باكستان وكانت صادقة، ونحسبها قادرة على ذلك وبسرعة أكبر، فإنها تكون قد كفرت عن خطائها التاريخي والاستراتيجي في امتلاك السلاح النووي لما كان متاحا حينها من حليفتها باكستان. بهذا النهج، يمكنها إدراك أهم مفاتيح القوة وركائز التأثير في موازين القوى الإقليمية والدولية. لكن إذا كان هذا التوجه مجرد تكتيك مرحلي للضغط على أمريكا؛ فحينها تكون قد تقهقرت إلى الخلف واقتربت بخطوات أكثر إلى ما تخشاه، المواجهة العسكرية مع الصهاينة وهي صاغرة.
ماذا عن باقي العرب والمسلمين
من المؤكد أن المحتل الإسرائيلي وهو يعيش عنفوان مرحلة التأسيس الثاني على أنقاض جثث وأشلاء الأطفال والنساء والمسنين والمجاهدين، محدثا دمارا هائلا لم يترك لا حجرا ولا شجرا ولا بشرا، لن يتوانى ثانية واحدة في قصف أي بلد عربي أو مسلم شكك في ولائه له أو وضعه في لائحته السوداء أو شعر بأنه عقبة في طريق تحقيق أحلامه التوراتية، ولن تعدم الأعذار لديه.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة، في الشرق الأوسط والحرب الباكستانية الهندية والهجوم على قطر والحرب على إيران والحرب الأكرانية الروسية واستباحة الأراضي السورية واللبنانية والتحرش المستمر بمصر، ألا مفر من بناء قدرات عسكرية ذاتية مهابة، هي وحدها الكفيلة بإعادة التوازن لمعادلة الردع. من القول المأثور أن الاستعداد للحرب يتم في أوقات السلم. إذا ألقينا نظرة على ما ننفقه وفيما ننفقه من موارد مالية وفيما تضيع من أجله جهودنا الفكرية والبدنية، يمكننا بسهولة استشفاف معادلة زمن الحرب. لكن الأمل قائم وحسبنا أن تُصحح الأوضاع سريعا، فأن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً.