وجهة نظر

المغرب والصحراء .. الفصل الأخير

لم يكن نزاع الصحراء سوى مسرحية طويلة الفصول، استنزفت الدبلوماسيات وأهدرت الأموال. واليوم، من يتأمل مجريات الأحداث يوقن أننا أمام الفصل الأخير. فالمغرب، بصلابته التاريخية ورؤيته الاستراتيجية، قاد هذا الملف من دهاليز المماطلة إلى أفق الحسم. أما المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، فلم يعد يلوّح باحتمالات غامضة أو حلول مؤقتة، بل يتحدث عن تنزيل عملي للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. نحن إذن أمام لحظة فارقة، لحظة تُطوى فيها صفحات نزاع مفتعل، ليترسخ الحق على حساب الوهم، وتُثبت الدبلوماسية المغربية ذكاءها في مواجهة تبعثر الخصوم.

البعد السياسي .. من الاعتراف إلى الترجمة العملية

إنّ القرار الأمريكي بتشجيع الاستثمارات في الصحراء المغربية يشكل تحوّلاً نوعياً في مسار الملف، إذ ينقل الموقف الأمريكي من مستوى الاعتراف السياسي إلى مستوى التفعيل الميداني. فالدبلوماسية لا تُقاس بالتصريحات والبيانات فحسب، بل بقدرتها على تجسيد المواقف في مشاريع ملموسة تعزز الاستقرار وتمنح السيادة شرعية اقتصادية.

لقد كان اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء سنة 2020 محطة مفصلية، غير أنه ظل في حاجة إلى سند عملي يترجَم في حضور شركات أمريكية كبرى تنخرط في مجالات الطاقة المتجددة، والبنية التحتية، والتجارة. ومن هذا المنظور، فإن الاستثمارات الواعدة في العيون والداخلة ترسم ملامح جديدة لعلاقات دولية تجعل من الصحراء فضاءً للتنمية والتعاون بدلاً من ساحة نزاع.

إن هذا التحول يؤكد أن المجتمع الدولي بات مقتنعاً بأن شعار “تقرير المصير” الذي ظلت الجزائر ترفعه في مواقفها العدائية تجاه المغرب، قد أصبح متجاوزاً وغير قابل للتطبيق. في المقابل، تظل مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 الإطار الواقعي الوحيد، لأنها تمنح الساكنة فرصة التطور الاقتصادي والاجتماعي مع صون خصوصيتها الثقافية.

هكذا يغدو الموقف الأمريكي قوة دفع لإقناع باقي الفاعلين الدوليين، وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي، بالانخراط في المسار نفسه.

البعد الأمني .. من إدارة الأزمة إلى بناء الاستقرار

إنّ أي مشروع اقتصادي في منطقة نزاع لن ينجح من دون قاعدة أمنية صلبة. وإعلان واشنطن عن ضمانات استثمارية في الأقاليم الجنوبية لا يُفهم بمعزل عن التفاهمات الأمنية التي نسجتها مع الأطراف الإقليمية. فالمفاوضات التي تخوضها الإدارة الأمريكية اليوم لا تروم إطالة أمد الصراع، بل تهدف إلى تفريغ شحناته وضمان الظروف الملائمة لتنزيل مشروع الحكم الذاتي.

في ظل التحولات الجيوسياسية العميقة التي تشهدها منطقة الساحل، من انسحاب فرنسي متسارع، وتمدد النفوذ الروسي، وتنامي التهديدات الإرهابية، أصبح من الضروري أن تتبنى الولايات المتحدة مقاربة جديدة تجعل من المغرب ركناً أساسياً في استراتيجيتها الأمنية. فالمغرب لم يكن يوماً جزءاً من المشكلة، بل ظل دائماً جزءاً من الحل، بفضل استقراره الداخلي، وخبرته الطويلة في محاربة الإرهاب، وشرعيته التاريخية المقترنة بدبلوماسية نشطة.

وعليه، فإن البعد الاستثماري الأمريكي لا ينفصل عن البعد الأمني، بل يتكامل معه، لتتحول الصحراء المغربية إلى فضاء استراتيجي مزدوج: قاعدة لتعزيز الأمن والسلم في إفريقيا، وممراً حيوياً يربط الأطلسي بالمتوسط، ويوفر للولايات المتحدة بوابة آمنة نحو القارة.

البعد الاقتصادي .. من الاستثمارات إلى بناء منصة قارية

تتجاوز أهمية الاستثمارات الأمريكية الواعدة في الأقاليم الجنوبية مجرد دعم لمغربية الصحراء، إذ تعكس وعياً استراتيجياً بأن إفريقيا هي ساحة التنافس الاقتصادي المقبل. ففي حين تمددت الصين عبر مبادرة “الحزام والطريق”، ورسّخت روسيا حضورها العسكري والاقتصادي، تأخرت الولايات المتحدة طويلاً. واليوم يبدو أنها عازمة على العودة بقوة، وقد اختارت المغرب بوابتها الأكثر موثوقية.

يستند هذا الاختيار إلى عوامل متشابكة .. فالموقع الجغرافي للمملكة الممتد من المتوسط إلى عمق إفريقيا، والمبادرات التي أطلقتها الرباط لتعزيز التعاون الإفريقي، وعلى رأسها المبادرة الأطلسية، جعلت من المغرب محوراً لا غنى عنه في معادلات القارة. كما أن حاجة الصناعات الأمريكية للمعادن الاستراتيجية كالليثيوم والكوبالت والنحاس تمنح للأقاليم الجنوبية قيمة مضاعفة، إذ يُرتقب أن تتحول هذه المناطق إلى قاعدة لوجستية رئيسية لتوزيع الموارد الإفريقية نحو الأسواق العالمية.

وعليه، فإن دخول رأس المال الأمريكي لا يُختزل في كونه نشاطاً اقتصادياً فحسب، بل يُعد تأسيساً لمنصة قارية جديدة تتكامل فيها الاستثمارات المغربية والأمريكية، وتفتح المجال أمام أوروبا وآسيا للانخراط في مشاريع كبرى، عمادها الطاقات المتجددة، والموانئ المتطورة، وحركة المبادلات التجارية. وهو ما يجعل من الصحراء المغربية فضاءً مرشحاً لصياغة توازنات اقتصادية جديدة على مستوى القارة.

في الختم .. النهاية المحتومة لنزاع مفتعل

اليوم، ومع تراكم المؤشرات السياسية، والأمنية، والاقتصادية، يقترب نزاع الصحراء المغربية من نهايته الطبيعية. فالمجتمع الدولي بات مقتنعاً بأن المغرب لا يدافع فقط عن وحدته الترابية، بل أيضاً عن استقرار المنطقة وأمنها الجماعي. وفي المقابل، أنفقت الجزائر مليارات الدولارات من ثروات شعبها على قضية خاسرة، موّلت بها دبلوماسية متعثرة ومخيماً يفتقد الأفق، لتجد نفسها في نهاية المطاف أمام عبث تاريخي لا مردّ له.

إن المستقبل يُكتب اليوم في الأقاليم الجنوبية، حيث تتحول الصحراء المغربية إلى فضاء للتنمية والاندماج الإفريقي، وإلى جسر استراتيجي بين القارات. وما تبقى من هذا النزاع ليس سوى صدى يتلاشى أمام الحقائق الراسخة.

كم من يد مدت أموالها لنصرة الوهم، فإذا بها تسقط في هاوية الحقيقة .. وهذا ما ستكشفه المرحلة المقبلة مع اقتراب طي هذا الملف نهائياً، وإسدال الستار على فصل أخير من نزاع مفتعل دام نصف قرن.