وجهة نظر

جيل “زيد” يصرخ.. قوموا بمهامكم كاملة أو انسحبوا

في أرشيف السياسة، هناك كلمات لا تشيخ، ونبوءات لا تخطئ موعدها. قبل ثماني سنوات، في خطاب العرش لعام 2017، لم تكن كلمات الملك محمد السادس مجرد نقد عابر للعمل السياسي، بل كانت بمثابة هزة ارتدادية استشرفت زلزالا قادما. سؤاله، الذي حمل مرارة الحقيقة ووضوح البصيرة: “إذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”، كان تشخيصا مبكرا لمرض آخذ في التوغل في جسد الوطن؛ شرخ الثقة المتعاظم بين قمة الهرم وقاعدته، وبين من يُدبّرون ومن يَتدبّرون أمرهم بصعوبة.

لكن يبدو أن الطبقة السياسية آنذاك، وفي السنوات التي تلت، تعاملت مع تلك الصرخة الملكية كأنها سحابة صيف عابرة. انشغلوا بتقاسم الحقائب الوزارية، وبمسرحيات الأغلبية والمعارضة داخل قبة برلمان بدت معزولة عن ضجيج الحياة الحقيقية. ظنوا أن الصمت الشعبي هو علامة رضا، وأن مرور الوقت كفيل بتخدير الألم الاجتماعي. لم يدركوا أن الصمت كان يخزن غضبا، وأن الزمن لم يكن يداوي، بل كان ينضج ثمار الخيبة التي قُطفت في شوارع المغرب أواخر شتنبر 2025.

ما شهدته مدننا في اليومين الأخيرين وما سيأتي لاحقا، لاقدر الله، لم يكن مجرد احتجاج، بل كان الصدى الذي تأخر ثماني سنوات. إنه صوت الشعب الذي أجاب على سؤال الملك. “ماذا بقي للشعب؟” بقي له الشارع، وبقيت له حنجرته التي لم تبح بعد. نزل “جيل زيد” – جيل وُلد في زمن العهد الجديد لكنه لم ير من وعود حكوماته المتعاقبة سوى سراب يبتعد كلما اقترب منه – ليعلن أن صبره قد نفد. هذا الجيل، الذي لا تربطه علاقة عضوية بالأحزاب التقليدية ولا تؤثر فيه الخطابات الأيديولوجية البالية، خرج بلغة جديدة، لغة الواقع الملموس. لم تكن شعاراتهم التي رفعوها مجرد قافية عفوية، بل كان جوهر عقد اجتماعي جديد يطالبون به: “لا يمكن للدولة أن تطالب بالمزيد من المواطن، بينما تقدم له القليل من الوطن”.

يومي 27 و28 شتنبر 2025 لم يكونا يومين عاديين في تاريخ المغرب الحديث. لقد شهدا ميلاد صوت جماعي جديد، صوت “جيل زيد” (Generation Z)؛ وجد نفسه يصطدم بجدار سميك من خيبات الأمل. هذا الجيل، الذي لم يعش سنوات الرصاص ولم يختبر الأيديولوجيات السياسية التقليدية، خرج إلى شوارع الدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش، لا ليرفع رايات حزبية أو نقابية، بل ليرفع لافتة واحدة تختزل كل شيء: “نريد تعليما ونظاما صحيا يليق بكرامة جيلنا”.

إنها ليست مجرد انتفاضة ضد غلاء المعيشة، بل هي ثورة على منطق دولة يبدو أنها تتقن الجباية وتنسى الرعاية. هي رفض لمنظومة صحية تترك المريض يصارع الموت على أبواب المستعجلات بحثا عن سرير، ولمدرسة عمومية تحولت إلى مصنع لإنتاج البطالة وخيبة الأمل، ولسوق عمل موصدة الأبواب إلا أمام من يملك مفاتيح الوساطة والمحسوبية. “جيل زيد” هو جيل الواقعية الرقمية؛ لا تنطلي عليه خطابات التبرير الحكومية المكررة عن “الظرفية الدولية” و”تقلبات الأسواق العالمية”، لأنه يرى بأم عينيه كيف تُهدر الثروات في مهرجانات باذخة ومشاريع شكلية، بينما تُقنّن الضروريات على المواطن البسيط.

إن ما أوصلنا إلى هذا المنعطف الحرج ليس مجرد سوء حظ أو أزمة عالمية عابرة، بل هو نتاج تراكم سياسات فاشلة وعقلية حكومية تعتبر المواطن مجرد صوت في الانتخابات، لا شريكا في الوطن. ويمكن تلخيص هذا الفشل المنهجي في ثلاثة محاور قاتلة.

أولا، تدمير الخدمات العمومية: فقد تم التعامل مع قطاعي الصحة والتعليم كعبء على الميزانية بدل أن يُنظر إليهما كاستثمار في رأس المال البشري. المستشفى العمومي أصبح رمزا للمعاناة، والمدرسة العمومية فقدت بريقها وقدرتها على تحقيق الحراك الاجتماعي. هذا التدمير الممنهج خلق جيلا يشعر أنه بلا حماية ولا مستقبل.

ثانيا، الطلاق بين السياسي والمواطن: تحول العمل السياسي من فن لتدبير الشأن العام إلى مجرد تقنية للفوز بالانتخابات. انشغل السياسيون بالصراعات الحزبية التافهة، وتحول البرلمان إلى حلبة للخطابات الشعبوية والاتهامات المتبادلة، بينما بقيت الأسئلة الحقيقية للمواطن معلقة: من سيوقف نزيف الأسعار؟ من سيعيد الكرامة للمريض في المستشفى؟ من سيمنح الأمل لخريجي الجامعات؟

ثالثا، اقتصاد بلا روح اجتماعية: رغم كل الحديث عن “النموذج التنموي الجديد”، لا يزال الواقع الاقتصادي ينتج تفاوتا صارخا. الثروة تتركز في يد قلة، فيما تتسع دائرة الفقر والهشاشة. الحكومة، بدل حماية القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والفقيرة، تبدو وكأنها تحمي مصالح اللوبيات الكبرى، تاركة المواطن الأعزل في مواجهة مباشرة مع جشع السوق.

جيل “زيد” لا يثق في الأحزاب، ولا يؤمن بالوعود الانتخابية، ولا ينتظر حلا سحريا من حكومات “تتقن التبرير وتفشل في التدبير”. هذا الجيل يعي أن المشكلة أعمق من تغيير وزير أو حكومة؛ إنها أزمة منظومة سياسية بأكملها فقدت شرعيتها الأخلاقية والعملية. لذلك، فإن احتجاجاته ليست مجرد حدث عابر يمكن احتواؤه ببعض الإجراءات الترقيعية. إنها إنذار صريح، وربما أخير، بأن المغرب يقف على حافة قطيعة خطيرة بين الدولة والمجتمع، وبين مؤسساته وشبابه.

المأساة الكبرى هي أن الحكومات المتعاقبة أتقنت فن إدارة الأزمة إعلاميا، لكنها فشلت فشلا ذريعا في إدارتها واقعيا. وزراء يتحدثون بلغة تقنية باردة من مكاتبهم المكيفة، منفصلون تماما عن معاناة أم تبحث عن دواء لطفلها، أو شاب جامعي يرى مستقبله يتبخر أمام عينيه. هذا الانفصام هو الذي غذى الشعور بالاغتراب داخل الوطن، وهو أخطر ما يمكن أن يواجه أي دولة.

احتجاجات 2025 ليست زوبعة في فنجان، بل هي إنذار أخير بأن نموذج التدبير الحالي قد استنفد صلاحيته بالكامل. إنها رسالة واضحة بأن شرعية المؤسسات لم تعد تُستمد من صناديق الاقتراع فحسب، بل من قدرتها على تحقيق الكرامة والعدالة لمواطنيها. تجاهل هذه الرسالة سيكون بمثابة مقامرة بمستقبل البلاد.

إذا لم تلتقط النخبة الحاكمة هذه الرسالة التاريخية، وإذا لم تدرك أن زمن بيع الأوهام قد انتهى، فإن القادم سيكون أصعب. الاستماع لصوت الشارع لم يعد خيارا، بل ضرورة وجودية. المطلوب اليوم ليس مجرد تعديل حكومي، بل ثورة في العقلية السياسية؛ ثورة تعيد الاعتبار للكفاءة والمسؤولية، وتضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار.

لقد قالها الملك بوضوح في 2017: “إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا”. واليوم، يردد الشعب الصدى بصوت أعلى وأكثر إصرارا، ليقول للجميع: إما أن تكونوا على قدر مسؤولية هذا الوطن، وتطلقوا إصلاحات حقيقية في الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية، أو اتركوا المكان لرجال ونساء من هذا الوطن ما زالوا يؤمنون بأن المغرب يستحق أفضل بكثير مما هو عليه. فلم يعد هناك متسع للمناورة أو التسويف.