في ظل السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وسم هذه الولاية الحكومية، تكاثرت الأزمات بشكل غير مسبوق، بدءا من موجة غلاء الأسعار واتساع دائرة البطالة، مرورا بتأكل الطبقة الوسطى وتراجع قدرتها الشرائية، وصولا إلى تزايد الضغط على الطبقة الشغيلة واتساع الهوة بين الفئات الاجتماعية. إن هذه التحولات لم تنتج فقط حالة من الاحتقان، بل ساهمت في بلورة وعي جماعي جديد، ترجم إلى خروج المواطنات والمواطنين إلى الشارع للمطالبة بما هو في جوهره حقوق أصيلة وليست امتيازات ظرفية، أولويات إنسانية وليست كماليات أو مظاهر رفاه. إنها مطالب ترتبط بالعيش الكريم، بالعدالة الاجتماعية، وبإعادة الاعتبار للمواطنة الحقة، بما يجعل من هذه اللحظة محطة فارقة تستدعي من الحكومة مراجعة عميقة لسياسات التي تنهجها في تدبير لأنها الى الأن تعتبر سياسات تدمير.
في ظل هذه الأزمات وهذا الوعي الجماعي ظهرت فئة شبابية تنتمي إلى ما يعرف اصطلاحا بـ “جيل Z”. هذه الفئة، التي ولدت وتفتحت في ظل الثورة الرقمية والعولمة، وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع واقع اجتماعي واقتصادي مأزوم، يتجلى في ارتفاع تكاليف المعيشة، ضعف الخدمات العمومية، محدودية فرص الشغل، واستمرار أشكال الفساد والمحسوبية، غير أن مطالب هذه الفئة لم تكن آنية أو ظرفية، بل اتسمت بطابعها الكوني، إذ تعكس ما يصطلح عليه بـ”حقوق الجيل الثاني”، وعلى رأسها الحق في الصحة والتعليم، وهي حقوق أساسية يفترض أن تكون بديهية في أي دولة تسم نفسها بالحديثة، لا أن تتحول إلى موضوع احتجاج في بلد يستعد لاحتضان تظاهرات رياضية عالمية. إن المفارقة الصارخة تكمن في دولة تقدم الكماليات على حساب الأولويات، وتفضل صورة خارجية مرتبطة بتصنيفات كروية، على حساب ترتيبها في مجالات التعليم والصحة وصون الكرامة الإنسانية.
إن هذا الوعي الشبابي، الذي أتشرف بالانتماء إليه، لم يرفع مطالب تعجيزية أو غير واقعية، بل لخص رؤيته في شعار جامع “حرية كرامة عدالة اجتماعية” وهي مرتكزات أساسية لأي نظام سياسي يزعم الانتساب إلى الديمقراطية. ومن ثم فإن صوت هذا الجيل لا يمثل مجرد صرخة احتجاج، بل يجسد دينامية تاريخية جديدة، تعيد الاعتبار للسياسة باعتبارها تعاقدا اجتماعيا يقوم على الإنصاف والمواطنة الكاملة.
إن ما يميز هذه الاحتجاجات لا يكمن فقط في حجم المشاركة واتساع رقعتها الجغرافية، بل أيضا في طبيعة الفاعلين الذين يقودونها. فنحن أمام جيل رقمي بامتياز، استطاع أن يحول الغضب الافتراضي إلى فعل ميداني، خارج منطق الوساطة التقليدية التي مثلتها الأحزاب والنقابات لعقود. ويجسد هذا التحول دلالة سياسية عميقة ميلاد جيل جديد يعيد تعريف الاحتجاج ويحرره من الأطر الكلاسيكية التي فقدت مشروعيتها لدى شرائح واسعة من المجتمع.
كما أن هذه الدينامية الشبابية تضع حدا لكل أوهام الاستغلال السياسي، فمخطئ من يعتقد أن أي حزب قادر على الركوب على هذه الموجة الاحتجاجية أو توظيفها كرصيد انتخابي مسبق. فالأمر لا يتعلق بحملة انتخابية مقنعة، بل بحركة مواطنية أصيلة، يعبر من خلالها الشباب عن وعي جمعي ومطالب مشروعة تتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة. إنها احتجاجات تنبع من عمق المجتمع، وتؤكد أن الشباب اليوم لم يعودوا مجرد فئة صامتة، بل مواطنون كاملو الأهلية يطالبون بحقوق أساسية غير قابلة للمساومة.
من الناحية السياسية، تضع احتجاجات جيل Z سؤال التواصل العمومي في صلب النقاش. إذ أظهرت ضعف قدرة الحكومة على مخاطبة الشباب، بل وكشفت عن عجز في إنتاج خطاب مقنع قادر على استيعاب المطالب الاجتماعية المتراكمة (والدليل هو الى الأن لم نرى أي رد من الحكومة باستثناء رد الداخلية بالعنف والقمع، وإلى الأن لم نرى السيد بيتاس يتحدث ويظهر لنا رأي الحكومة) وهذا يفتح الباب أمام تساؤل مشروع: إلى أي حد تستطيع المؤسسات التمثيلية النيابية التقليدية، في صيغتها الحالية، الاستجابة لتطلعات جيل لم يعد يقبل الانتظار ولا التسويات الرمزية؟
أما من الناحية المجتمعية، فإن مطالب هذا الجيل ــ الصحة التعليم الشغل العدالة الاجتماعية ــ ليست سوى إعادة صياغة جذرية لشروط المواطنة الكاملة. فالشباب اليوم لا يبحثون عن “صدقات اجتماعية” أو وعود مؤجلة، بل عن حق أصيل في العيش بكرامة داخل وطن عادل ومنصف.
إن احتجاجات جيل Z بالمغرب ليست مجرد موجة عابرة من الغضب، بل هي مؤشر على ميلاد وعي سياسي جديد، قد يفرض على الدولة إعادة التفكير في نمط تدبيرها للشأن العام، وفي صيغ إدماج الشباب في القرار العمومي. ذلك أن مستقبل الاستقرار لا يقوم على التعسفات الأمنية أو الخطابات المهدئة، وإنما على جرأة الإصلاح واعتبار الشباب شركاء حقيقيين في صياغة السياسات العمومية
وفي خاتمة القول، فإن مطالب هذا الجيل تظل بسيطة في جوهرها، لكنها عميقة في دلالتها “تعليم ذو جودة، صحة في متناول الجميع، فرص شغل كريمة، وضمان الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية” وهي مطالب لا تنفصل عن طموح مشروع يتمثل في وضع الشباب في صلب السياسات العمومية للدولة، ليس بوصفهم مجرد مستفيدين، بل باعتبارهم شركاء فاعلين في صياغة القرار العمومي وبناء المستقبل المشترك.