قبل أن تخرج التعبيرات الشبابية إلى الشارع، كانت بوادر الاحتقان تتغذى بصمت من داخل الفضاء الإعلامي نفسه. فمنذ سنوات، ساهم إعلام الإثارة – بوعي أو بدونه – في خلق حالة نفسية جماعية من الاحتقان والحقد الاجتماعي.
لقد أدى التكرار اليومي لأخبار الحوادث والعاهات الاجتماعية والمآسي الإنسانية، وتحول فئة من “اليوتوبرز” نصبوا أنفسهم ناطقين باسم الشعب بخطاب شعبوي ومتحرر من أي وعي مهني أو تكوين معرفي، إلى تغذية هذا المناخ المشحون. هؤلاء يقدمون أنفسهم كبديل عن الصحافة الجادة، دون أن يدركوا أن الكلمة مسؤولية وأن التأثير لا يقاس بعدد المشاهدات، بل بعمق الأثر وجودة المضمون.
وهكذا، ومع غياب أي تحليل أو معالجة مسؤولة، تشكل في الوجدان الجماعي مزاج عام يسوده التشاؤم وانعدام الثقة. وحين تتحول الشاشات والمنصات إلى مرايا مكبرة للظواهر السلبية، يغيب الوعي النقدي، ويحل مكانه الخوف والانفعال.
إعلام الغضب… من الإخبار إلى الإثارة
في لحظات الغضب الاجتماعي، يتضاعف تأثير الإعلام؛ فالكلمة والصورة لا تنقل الحدث فقط، بل تُشكل معناه وتوجه مسارات تأويله في الوعي الجمعي. غير أن جزءا من التغطيات الأخيرة انحرف نحو الإثارة والتهويل، فحول المشهد إلى فرجة يومية تغذي مشاعر القلق والاحتقان بدل الفهم والتبصير.
وبدل أن يفتح الإعلام أبواب النقاش الهادئ والتحليل العميق، انشغل بعض الفاعلين فيه بمشاهد الفوضى والصدام، فانتقل الميكروفون من أداة استقصاء إلى وسيلة لتكريس الانفعال.
تحوّل كثير من الأشخاص الذين يحملون كاميرا وميكروفون إلى جامعي تصريحات عشوائية من الشارع، يستقون الآراء من أي كان، ويبثونها كما هي، دون تدقيق أو تنقيح أو تقاطع للمصادر، في غياب الحد الأدنى من المهنية التحريرية.
بهذا الأسلوب، وجدنا أنفسنا أمام إعلام يضخم الظواهر بحثا عن اللايك والمشاهدات بدل تحليلها، ويعيد إنتاج الغضب بدل تفكيكه. وهو انزلاق خطير يُضعف الثقة بين المواطن ومؤسساته، ويحوّل النقاش العمومي إلى صدى للانفعال الجماعي أكثر منه فضاء للفهم والمسؤولية.
وفي هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة طرح السؤال الجوهري: ما وظيفة الإعلام المنظم والمؤسساتي في لحظات الغليان؟ وهل يفترض أن يكون جزءا من المشهد الانفعالي، أم ضميرا جماعيا يحافظ على توازن المجتمع واستقراره النفسي؟
الإعلام المنظم بين الواجب المهني وإغراء “الطوندونس”
إن الإعلام المنظم، العمومي والخاص، لا يُفترض أن يلهث وراء “الطوندونس” أو يخضع لمنطق السوق الرقمي. فحين يتحول الإعلام إلى أداة لجذب المشاهدات بدل الإخبار والتنوير، يفقد رسالته ويُقوّض الثقة في مهنيته. من هنا، فإن دوره الحقيقي يكمن في المساءلة المسؤولة والتأطير الواعي.
يجب أن يسائل السياسات العمومية ويحرج المسؤولين بأسئلة دقيقة، ولكن دون الانزلاق نحو الإثارة أو الشعبوية. فالإعلام الذي يشرح ويحلل ويساعد على الفهم، يسهم في الاستقرار أكثر من أي خطاب تهويلي.
بموازاة ذلك، ينبغي أن يظل الإعلام العمومي مدرسة للنقاش الهادئ، وأن يحافظ القطاع الخاص على استقلاليته ومهنيته، بعيدا عن حسابات الربح السريع والخوارزميات.
الإعلام كمسؤولية اجتماعية
في هذا الاطار، تُذكرنا نظرية المسؤولية الاجتماعية للإعلام بأن الحرية لا تنفصل عن الواجب. فالممارسة الإعلامية ليست مجرد نقل للوقائع، بل إسهام في هندسة الوعي الجماعي.
من هذا المنطلق، لا يكون دور الإعلام هو عرض الوقائع فقط، بل تحويلها إلى فرصة للفهم والإصلاح.
إن نشر مشاهد الفوضى أو تبني مواقف المحتجين ومطالبهم مهما بدت غير واقعية، دون سياق أو تحليل لا ينتج إلا اللامبالاة والاحتقان، بينما التحليل المسؤول يُعيد للخبر قيمته التربوية. فالإعلام الذي يحترم أخلاقيات مهنة الصحافة لا يكتفي بتسجيل الواقع، بل يسعى إلى تغيير طريقة فهمه.
وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات الإعلامية ضمن ما يُعرف بـ”نظرية الأجندة”.
تُظهر نظرية الأجندة الإعلامية أن الإعلام لا يخبر الناس بماذا يفكرون، بل بماذا عليهم أن يفكروا فيه. أي أن ترتيب المواضيع وطريقة تناولها تحدد اتجاه الرأي العام.
وعلى سبيل المثال، فإن التركيز الإعلامي على مشاهد العنف دون الغوص في جذور الأزمة من بطالة وتفاوتات اجتماعية وضعف وساطة..، يجعل الرأي العام يرى الأزمة من زاوية ناقصة.
لذلك، ينبغي للإعلام أن يعيد بناء أولوياته:
من سؤال “من كسر الزجاج؟” إلى “لماذا خرج الشباب؟”، ومن عرض مشاهد الصدام إلى تحليل السياسات التي أفضت إليه. بهذه المقاربة، يتحول الإعلام من ناقل للأزمة إلى فاعل في تجاوزها، ومن متفرج على الأحداث إلى شريك في صناعة الحل.
الإعلام وجيل “زيد”: معركة الثقة المفقودة
يعيش جيل “زيد” في فضاء إعلامي رقمي متشظ، يختلط فيه الخبر بالإشهار والرأي بالمؤامرة. وقد ترك غياب التأطير المهني المجال مفتوحا أمام فئة من “اليوتوبرز” لتملأ الفراغ، مقدمة نفسها كبديل عن الصحافة الجادة.
لكن هذا “الإعلام الموازي”، الذي لا يستند إلى تكوين ولا إلى أخلاقيات يُسهم في تسطيح النقاش العمومي، بل ويُستعمل أحيانًا كأداة في الصراعات السياسية الضيقة أو امتصاص الغضب.
وفي غياب خطاب إعلامي مؤطر ومسؤول، يتغذى الشباب على محتوى بلا عمق ولا سياق، مما يُعيد إنتاج القطيعة بين الجيل الجديد والمؤسسات والإعلام المهني على حد سواء.
نحو إعلام وطني يؤطر ويؤثر
خلاصة القول: الإعلام ليس متفرجا على الواقع، بل جزء منه. فحين يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية والمجتمعية، يتحول إلى أداة لتفكيك الثقة بدل بنائها. وحين يختار الإثارة على حساب التحليل، يسهم من حيث لا يدري في إضعاف تماسك المجتمع.
المطلوب اليوم إعلام وطني ومهني يؤطر النقاش العمومي ويعيد الاعتبار للقيم والمصداقية، إعلام يسائل السياسات بجرأة، لكنه يساهم في تأطير الرأي العام لا في التصعيد، إعلام يعيد بناء الثقة بدل أن يستهلكها.
ففي زمن التعبيرات الشبابية، لا نحتاج إلى إعلام يُصفق أو يحرض أو يبحث عن “البوز”، بل إلى إعلام يُبصّر، ويُوجه، ويُعيد الأمل في قوة الكلمة وعقلانية النقاش.
هذا هو الرهان الحقيقي على مستقبل الصحافة في مغرب اليوم.
* صحافي وباحث في الإعلام والتواصل