تفاجأ المتتبعون للشأن السياسي الفرنسي تقديم استقالة الوزير الاول بعد بضع ساعات من تعيين الحكومة، وهو حدث استثنائي وجلل يؤدي لتعميق الأزمة السياسية التي تعرفها فرنسا منذ أزيد من سنة ونصف، وقد انعكست هذه الأزمة على العمل التشريعي والحكومي في آن واحد، وأدخل البلاد في نفق قد لا تخرج منه بسهولة، خاصة في ظل رفض جل القوى السياسة الرئيسية دعم الحكومة أو المشاركة فيها، كما رفضت النقابات الكبرى التجاوب مع الحوار معها قبيل تشكيل الحكومة المستقيلة.
وترتبط الأزمة السياسة في فرنسا بشكل وثيق بالوضعية الاقتصادية والمالية للبلاد، والتي تنذر بواقع مشابه لما كانت عليه اليونان والبرتغال بعد الأزمة المالية العالمية 2008-2010، وتعتبر هاته الوضعية أحد الأسباب الرئيسية لرفض الأحزاب الفرنسية التورط في حكومة ستعتبر بدورها مؤقتة في انتظار إسقاطها مرة أخرى.
ولفهم ما يجري في الساحة السياسية الفرنسية، يتعين الرجوع لتقارير المؤسسات الرسمية حول الوضع الاقتصادي والمالي الذي ينذر بإفلاس الدولة على المدى المتوسط، وبالأزمة العميقة التي تتخبط فيها فرنسا منذ أكثر من سنة ونصف على الأقل.
فحسب التقرير الرسمي الصادر عن مجلس الحسابات الفرنسي – أو محكمة الحسابات cour des comptes، فإن عجز الميزانية وصل لمستويات غير مسبوقة، وفاق خلال سنة 2024 وحدها ما يقرب من 175 مليار يورو، بنسبة 6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، بعدما شهدت سنة 2023 نشبة عالية أيضا فاقت 5.5 بالمائة، وهي نسب تخالف جميع التوقعات.
وعلى الرغم من أن دول منطقة الاتحاد النقدي ملزمة بالحفاظ على عجز الميزانية في مستويات لا تتعدى 3 بالمائة، إلا أن دول مثل فرنسا لا زالت لم تتمكن لحد الآن من الالتزام بهذا السقف، وقد أدى استمرار عجز الميزانية منذ سنة 2023 في مستويات عالية، وكان رئيس وزراء سابق قد تعهد بخفض عجز الميزانية لحدود 4.4 بالمائة سنة 2024، ليجد نفسه في نهاية المطاف قد أغرق المالية الفرنسية في عجز يفوق 6.6 بالمائة، وهو ما دفع فرنسا لتأجيل الموعد النهائي لخفض العجز إلى سقف 3٪ إلى ما بعد سنة 2029، وذلك خلافا لالتزاماتها السابقة مع الاتحاد الأوربي.
وبمقابل ذلك، وحسب نفس التقرير الصادر عن محكمة الحسابات الفرنسية، فقد ارفع الدين العمومي بشكل غير مسبوق ليلامس نسبة 114 بالمائة من الناتج الداخلي الخام لفرنسا، مما فاق جميع التوقعات وأعلن فشل جميع سياسات الاحتواء والتقليص من العجز وخفض مستوى الاستدانة ،خاصة وأن هاته النسبة تعادل ما يفوق 3300 مليار أورو (بزيادة سنوية تتعدى 185 مليار أورو عن السنة السابقة)، وأصبحت فرنسا –حسب نفس التقرير- صاحبة أكبر عجز للميزانية بمنطقة الأورو، وتقترب من أكبر نسبة استدانة بنفس المنطقة.
إن هاته المعطيات العامة الكبرى عن وضعية الاقتصاد الفرنسي والمالية العمومية تعبر عن مؤشر عام سلبي وخطير ،وتهدد بإفلاس الدولة، وهو ما دفع القوى السياسية الكبرى للتحفظ عن المشاركة في الحكومة أو دعمها، لأن ذلك يعتبر في نظرها انتحارا سياسيا في ظل الغموض وعدم اليقين المرتبط بالوضعية الاقتصادية والامنية الأوربية والعالمية.
وبالمقابل، وإذا كان المغرب يعاني من مشاكل سياسية واقتصادية ومالية أقل حدة بكثير مما تعرفه فرنسا ،إلا أن تشابه الإشكالات الكبرى (ضعف النمو، تفاقم عجز الميزانية وارتفاع المديونية) قد يضغط بدوره بشكل أكثر حدة في المستقبل القريب، وقد تكون له عواقبه السياسية أيضا، خاصة وأن المؤشرات المقلقة للمالية العمومية بالمغرب تزداد حدتها سنويا وإن بوتيرة أخف مما يعرفه الاقتصاد الفرنسي في السنوات ما بعد أزمة كوفيد.