وسط حراك رقمي متصاعد يقوده شباب “جيل زيد” للمطالبة بإصلاح جذري للمنظومة الصحية، تبرز قصة مستشفى القرب بدمنات كنموذج صارخ للفجوة بين الوعود “الوردية” والواقع المرير الذي يعيشه المواطنون. هذه القصة، التي تجسدت في معاناة الطفل أنس، لم تعد مجرد شكوى فردية، بل تحولت إلى رمز لأزمة هيكلية عميقة، تفضحها تصريحات المسؤولين المتناقضة وتقارير الخصاص المهول.
بدأت فصول المأساة عندما تحولت رحلة “أنس”، وهو طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة يعاني من شلل نصفي، لإجراء فحص بسيط بالأشعة إلى كابوس استمر لأسبوعين. فجهاز “الراديو” الوحيد في المستشفى، الذي يخدم ساكنة تتجاوز 187 ألف نسمة موزعة على 12 جماعة، كان خارج الخدمة إلى غاية أمس الاثنين. وحسب ما أفاد به أحد أقارب الطفل لجريدة “العمق”، كان الجواب اليومي هو نفسه: “الجهاز معطل”. هذا العطل لم يكن مجرد خلل تقني، بل كان الشرارة التي كشفت عن مستشفى ولد ميتا، رغم تدشينه الرسمي بوعود ضخمة عام 2018.
من “بشرى التعيينات” إلى واقع “التقاسم”
لإدراك حجم التناقض، لا بد من العودة إلى تدوينات النائب البرلماني عن المنطقة، عبد العالي بروكي. ففي 13 غشت الماضي، زفّ النائب “بشرى” لساكنة دمنات، مجددا شكره لوزير الصحة على “تلبية طلبه وتعيين طبيب مختص في الجراحة، وطبيب مختص في التخدير والإنعاش، وطبيبين مختصين في الأشعة، إضافة إلى طبيبين مختصين في طب العظام”. كما وعد بعودة متخصصي النساء والتوليد “مع نهاية شهر غشت 2025”. كانت هذه التدوينة بمثابة إعلان عن قرب نهاية الأزمة.
لكن بعد أقل من شهر، في العاشر من شتنبر المنصرم، عادت تدوينة أخرى للنائب نفسه لتحمل واقعا مختلفا تماما. فبدلا من استقرار طبيبي النساء والتوليد، تحدث بروكي عن “اقتسام حضورهما بين أزيلال ودمنات بمعدل يومين في الأسبوع لكل طبيب بالتناوب”، وهو حل ترقيعي لا يلبي الحاجة الملحة. أما عن أطباء الجراحة والتخدير والعظام الذين بشّر بهم، فقد اختفوا تماما من المشهد، ليطالب النائب مجددا بـ “تشغيل قسم الجراحة الخاص بالتوليد بدل الاكتفاء بالتشخيص”. هذه المفارقة الصارخة بين تدوينتين تختزل قصة الوعود التي تتبخر عند أول اختبار للواقع.
ما قاله النائب بروكي ضمنيا، وثّقه زميله في البرلمان، رشيد المنصوري، بشكل صريح في ملتمس سابق لوزير الصحة. حيث عبّر المنصوري عن “استغرابه وأسفه الشديد” لـ “إقصاء إقليم أزيلال من تعيينات الأطباء المختصين”، مؤكدا أن جداول الوزارة لم تراعِ الاحتياجات العاجلة للإقليم. وقدم لائحة “الأصفار” الصادمة التي تؤكد حجم الفراغ في مستشفى دمنات: صفر أطباء في الجراحة العامة، صفر في التخدير والإنعاش، وصفر في النساء والتوليد، مقابل طبيب واحد فقط للأطفال وآخر للأشعة.
“شهادة صادمة من قلب المعاناة
هذه الأرقام الرسمية يؤكدها مصدر مطلع على تفاصيل القطاع بالإقليم والذي كشف في تصريح لـ “العمق” عن واقع أكثر قتامة. فبخصوص التخصصات الحيوية، كان جوابه قاطعا، إذ كشف عن خصاص مهول في الأطر الطبية المتخصصة، يصل إلى حد الغياب التام لأطباء حيويين في تخصصات التخدير والإنعاش، وطب العظام، والجراحة العامة، مما يجعله عاجزا عن التعامل مع الحالات الطارئة والعمليات الجراحية الأساسية.
وأوضح المصدر ذاته أن هذا الفراغ الخطير يحرم ساكنة المنطقة من خدمات طبية ضرورية، حيث لا يمكن إجراء عمليات بسيطة مثل استئصال الزائدة الدودية أو المرارة، وهي خدمات يفترض أن توفرها مؤسسة استشفائية من هذا الحجم. وأضاف أن الأزمة تمتد لتشمل باقي التخصصات الحيوية، حيث يقتصر عمل أطباء الأطفال على يومين فقط في الأسبوع، هما الثلاثاء والخميس، وهو نفس عدد الأيام المخصصة لأطباء أمراض النساء والتوليد، الذين لا تتجاوز مدة عملهم يومين أسبوعيا.
وتابع المصدر في تفاصيله أن قسم الفحص بالأشعة، رغم توفره على طبيبين متخصصين، لا يقدم خدماته سوى ثلاثة أيام في الأسبوع، محددة في الاثنين والأربعاء والجمعة، مما يسبب تأخيرا في التشخيص للمرضى. كما تطرق إلى النقص الملحوظ في طاقم التمريض، مفسرا ذلك بكون عدد كبير من الممرضين تم تنقيلهم في فترات سابقة دون أن يتم تعويضهم، مما أثر سلبا على جودة الرعاية المقدمة للمرضى.
وفي سياق متصل، أشار المصدر إلى حدوث تغيير إيجابي طفيف يتعلق بخدمة سيارات الإسعاف، حيث أصبح النقل مجانيا بشكل كامل بالنسبة للحالات القادمة من قسم الولادة، بينما تتكفل الإدارة بتوفير الوقود للحالات الحرجة والخطيرة الأخرى. وعزا المصدر هذا التغيير إلى تأثير الضغط الإعلامي والمجتمعي الأخير، بعد أن كان المرضى في السابق مجبرين على دفع تكاليف النقل من مالهم الخاص.
دمنات تدفع ثمن اختلالات التدبير الصحي
واعتبر الناشط السياسي وعضو جماعة دمنات، عبد اللطيف بوغالم، أن واقع قطاع الصحة المتردي في المدينة لا ينفصل عن الأزمة الوطنية الشاملة، مؤكدا أن الحلم الذي راود الساكنة عند تشييد مستشفى القرب عام 2018 سرعان ما تبدد ليتحول إلى مجرد وهم.
وأوضح بوغالم في تصريح له، أنه “على الرغم من أن المستشفى كان من المفترض أن يختصر على المواطنين عناء التنقل إلى أزيلال وقلعة السراغنة ومراكش، إلا أن الأمر لم يكن سوى ذر للرماد في العيون، حيث تحولت المؤسسة الصحية إلى مجرد محطة عبور للحالات المستعجلة التي تفد على قسم المستعجلات”.
ويكمن جوهر الأزمة، حسب بوغالم، في الخصاص المهول في الموارد البشرية، وليس في البنية التحتية. وأضاف: “فالأقسام والتجهيزات موجودة، من مختبر وغرف عمليات وصيدلية وقسم للفحص بالأشعة، لكن لسان حال هذه المؤسسة التي تعتبر الملاذ الوحيد لساكنة دمنات وعشرات الجماعات المجاورة، هو غياب الأطقم الطبية. فما أن يتم تعيينها، حتى نتفاجأ كساكنة بانتقالها إلى المستشفى الإقليمي بأزيلال، مكتفين بتغطية الفراغ الشديد في دمنات عبر زيارات مؤقتة لا تلبي الحاجة الحقيقية”.
وكشف بوغالم، بصفته عضوا منتخبا، أنه حاول التحرك رسميا لحل الأزمة عبر طلب إدراج نقطة في جدول أعمال دورة أكتوبر، وذلك حتى قبل اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة التي قادها شباب “Gen Z”. وأشار إلى أن “رئيس جماعة دمنات كان له رأي آخر، حيث برر رفضه إدراج هذه النقطة المهمة بحجة أن المستشفى لا يدخل ضمن النفوذ الترابي للجماعة”. وهو مبرر وصفه بوغالم بغير المقنع، مشيرا إلى مفارقة صارخة تتمثل في كون الجماعة نفسها كانت تتكلف سابقا بجمع النفايات الطبية من المستشفى، مما يثبت إمكانية التدخل عند وجود الإرادة السياسية.
وختم بوغالم تصريحه بالقول: “إن هذا التقاعس من طرف المسؤولين وعدم فتح قنوات التواصل، هو ما أشعل فتيل الأزمة الصحية بمختلف مناطق المغرب، ومنها مدينة دمنات، وجعل قطاع الصحة يتصدر قائمة المطالب الملحة الموجهة للحكومة في الحراك المجتمعي الحالي”.
عنوان لأزمة إقليمية
من جهته، حذر الكاتب الإقليمي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بأزيلال، جمال بنعلا، من أن الأزمة التي يعيشها مستشفى دمنات ليست سوى عرض لأزمة أعمق وأشمل تعصف بالمنظومة الصحية في الإقليم بكامله، كاشفا عن خصاص كارثي في الخدمات والموارد البشرية يهدد حياة المواطنين بشكل مباشر.
وأشار بنعلا، في تصريح لجريدة “العمق”، إلى أن انعدام مركز لتحاقن الدم على مستوى الإقليم بأكمله يمثل أبرز مظاهر هذه الأزمة. وقال: “نسجل بقلق بالغ غياب مركز لتحاقن الدم، وقد سبق للمكتب الإقليمي للعصبة أن راسل الوزارة بهذا الشأن لكن لا جديد يذكر. هذا الوضع يجبر المرضى في الحالات المستعجلة على خوض سباق ضد الزمن وقطع مسافات طويلة لإنقاذ أرواحهم، الأمر الذي يتنافى بشكل صارخ مع الحق الدستوري في الولوج العادل والمتكافئ للخدمات الصحية”.
ولم تتوقف الأزمة عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل الموارد البشرية التي تعتبر عصب أي منظومة صحية. وفي هذا الصدد، نبه بنعلا إلى “الوضعية المزرية التي يعيشها الأطباء المتعاقدون في الإقليم، حيث يعانون من تأخر كبير في صرف أجورهم يمتد لأكثر من شهرين، مما يشكل حيفا واضحا في حقهم ويسيء إلى كرامتهم المهنية”. واعتبر أن “هذه الوضعية غير المقبولة تساهم بشكل مباشر في نفور الأطر الطبية من العمل بالإقليم، وتفاقم الخصاص الحاد الذي تعاني منه المستشفيات والمراكز الصحية”.
وعلى صعيد التجهيزات، كشف الناشط الحقوقي ذاته أن المستشفى الإقليمي لا يتوفر سوى على جهاز سكانير واحد فقط، مما يؤدي إلى ضغط هائل عليه وتأخير في التشخيص الدقيق، خاصة في حالات الطوارئ التي قد تكون لها “عواقب وخيمة”.
وأمام هذا الواقع، شدد بنعلا على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة، مطالبا في حزمة متكاملة بتسريع وتيرة بناء المستشفى الإقليمي الجديد مع توسيع طاقته الاستيعابية بدل تقليصها، والإحداث الفوري لمركز لتحاقن الدم، إلى جانب تزويد مستشفى دمنات بجهاز سكانير لتخفيف الضغط عن أزيلال. كما دعا إلى التسوية الفورية للوضعية المادية للأطباء المتعاقدين وصرف مستحقاتهم المتأخرة، ضمانا لكرامتهم وتشجيعهم على الاستقرار بالإقليم لخدمة ساكنته.
اليوم، وبينما ينتظر “أنس” وعائلته إصلاح جهاز بسيط، تقف ساكنة دمنات بأكملها في انتظار إصلاح منظومة كاملة. إنها قصة تختزل حراكا مجتمعيا يرفض أن تكون الصحة مجرد امتياز، ويصر على أنها حق أساسي لا يقبل الوعود المؤجلة أو الحلول الترقيعية.