وجهة نظر

احتجاجات “جيل زيد”.. الواقع ليس لعبة فيديو

العالم اليوم يعيش تحولات كبيرة ومتسارعة نتيجة نظام العولمة، وتأثيراتها على مستوى الاتصال والتواصل، ببناء مواطن عالمي: توحيد القيم وتفكيك الهويات الصلبة، وترسيخ المواطن المستهلك.

من نتائج هذه التحولات، تبلور شخصية جديدة على ساحة الواقع، هوية لكائن رقمي بطبيعة افتراضية، حين ينخرط في الشبكات ويذوب في عوالمها خارج حدود الجغرافيا الثقافية والقيمية، وخارج مجاله الحيوي الذي يعيش فيه.

اليوم، العالم الافتراضي لم يعد ملاذًا للشباب الباحثين عن حرية بلا حدود فقط، وإنما أصبح مصدر تهديد للاستقرار في العالم الواقعي، وهو ما يقوي فرضية الصراع بين العالمين: الواقعي والافتراضي.

جون بودريار، في رؤيته النقدية لواقع ما بعد الحداثة، يعتبر أن الواقع أصبح “أقل واقعية”، الأمر الذي سيقود إلى موت الواقع.
إن المجتمع الحقيقي سيفقد أصله نتيجة تعدد النسخ المزورة له بفعل المحاكاة الإعلامية المكثفة، لذا، فالعالم لم يعد حقيقيًا إلا في الإعلانات وشاشات الأجهزة الإلكترونية وفي المجموعات المغلقة، وفق رؤية بودريار.

نتوقف عند واقعة احتجاجات جيل زد بالمغرب، والتي انطلقت من الافتراضي، وعادت إلى شوارع المغرب عبر حراك احتجاجي شبابي مفاجئ.
حراك فرض على الحكومة والفاعل السياسي تغيير أجندته، وجعل وسائل الإعلام تغير كل برامجها الشهرية والأسبوعية والانفتاح على الحراك أو مغازلته.
البعض من المثقفين نصبوا أنفسهم مداحين للشباب، وجعلوهم قوة مقدسة جاءت لتحرير الوطن.

اليوم، الحراك الافتراضي تحول إلى حراك واقعي عبر احتجاجات “جيل زد”، من خلال الانتقال من فضاء للترفيه والألعاب وتبادل المعلومات والتعارف، إلى منصة للتعبئة والاحتجاج، وبالتالي تحويل الفعل السياسي إلى لعبة جدية تُخاض في الشوارع وأمام المقرات الرسمية، ترفع شعار إسقاط الحكومة، بعد أن رفعت شعار تحسين الخدمات الطبية والتعليمية.

احتجاجات جيل قرر أن يحول لعبة من الفيديو إلى الواقع، عبر آليات احتجاجية يصعب مراقبتها، وهنا تكمن المشكلة، فالأجهزة الأمنية والرقابية غير معتادة على التعامل مع فاعل احتجاجي هجين، يزاوج بين الافتراضي والواقعي.

في الغرف المغلقة، حيث التأطير والتعبئة وتوزيع المهام تتم خارج الواقع، وفي المنصات غير المراقبة، والاحتجاج يكون واقعيًا رغم حجم الخطورة المصاحبة لطقوس العبور، نتيجة العنف المرافق لذهنية الحشود.

فالانتقال من الافتراضي إلى الواقعي بدون تأطير، وفي غياب قيادة، قد يؤدي إلى حوادث سير أثناء عملية الانتقال، وهو ما شهدته بعض مدن المملكة من عنف وخراب والاعتداء على الممتلكات.

جيل زد، وحراكه الاحتجاجي المؤسس في المنصات الافتراضية، خلق حالة ارتباك في كيفية التعامل، بالنظر إلى خصوصية الفاعل الاحتجاجي الجديد، الذي يفكر من خارج الواقع، لكنه يتحرك داخل الواقع.

البعض يطرح سيناريو حظر هذه المنصة، بالاستناد إلى التجربة التركية والروسية، حيث قررت الحكومتان إغلاقها بدعوى حماية الطفولة وحماية الأمن القيمي.
وهو إجراء سيادي يتعلق بقرارات الدولة، لكن المنصة أصبحت ذات بعد عالمي، وتساهم في ترسيخ هوية جديدة تحاول نسف الهوية الأصلية، واستبدالها بهوية جديدة تعادي القيم والثبات والاستقرار، وتنشر قيم مجتمع مفرط في الحرية.

“جيل زد”، والذي يحمل معه هويته، يبدو أنه هوية فوق المكان، لأن الهوية الجديدة محددة بعقارب ساعة عالمية، تصنع مواطنًا عالميًا في تفكيره وقيمه، حتى وإن كان يقيم في سياقات مختلفة.

ارتباط الهوية بالزمان يجعلها دائمة التحرك والدوران والتغير، لذا أستغرب كيف لجيل متحرك أن يدعي امتلاك الحقيقة الثابتة، أو على الأقل يؤمن بمنطق الحوار بين الأجيال، عوض منطق مخاطبة الناس من أبراج افتراضية، حيث الاعتقاد بفكرة امتلاك الحقيقة والرفض الكلي للحوار ومعاداة المؤسسات.

لذا أعتبر أن الواقع ليس لعبة فيديو، فالسؤال الأساسي اليوم هو: كيف نحقق ما نريد؟ وكيف ننتقل من سؤال المطالب إلى سؤال آليات تحقيقها؟

المنع ليس حلًا، وفي ذات الوقت، التساهل ليس حلًا.
لذا، فإن التعامل الجدي ليس مع الأداة التي وظفها الشباب للتعبير عن مطالبهم وأحلامهم، وإنما الحل يكمن عبر سلة إجراءات متكاملة، تركز على البعد الاستيعابي، عبر إجراءات الإنصات والحوار، وإدماج الشباب في الفعل السياسي والتنموي، وفي ذات الوقت، صياغة نصوص تشريعية تؤطر المحتويات التي تنشرها المنصات العالمية، بما يحمي الأمن الروحي والقيمي للبلاد.