الحكومة التي تسببت في تأجيج الشارع المغربي، وخاصة فئة الشباب«GenZ»، بسبب اختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاشلة عليها أن تتحمل مسؤوليتها وتقدم الحساب أمام الشعب وأمام الملك وتنصرف.
الأغلبية الحكومية الحالية من خليط غير متجانس ممثلا في ثلاثة أحزاب سياسية، وذلك بسبب الاختلافات الفكرية والسياسية والإيديولوجية بينها، وهو ما يشكل ظاهرة سياسة فريدة لا يمكن أن تتواجد إلا في نموذج المجتمعات والدول التي تقف في منزلة بين المنزلتين بالنسبة للممارسة السياسية الرشيدة القائمة على عقلانية وحكامة المجالين السياسي والحزبي.
تتميز الممارسة الديمقراطية في تشكيل التحالفات السياسية، في الأنظمة السياسية العالمية النموذجية ذات المشهد الحزبي التعددي (وهو الذي تمثله الأنظمة السياسية البرلمانية أو النصف رئاسية في الدول المتقدمة) بكون التحالف بين الأحزاب لتشكيل سلطة الأغلبية يتأسس انطلاقا من التقاطعات بين المرجعيات الفكرية والسياسية للأحزاب مما يجعلها تنتظم في أقطاب حزبية تلتزم بنظام داخلي صارم بحسب تعبير أستاذ القانون الدستوري الفرنسي (موريس دوفرجيه: المؤسسات السياسية والقانون الدستوري)، إضافة إلى التقارب الذي يطبع برامجها السياسية والانتخابية، وبالتالي فإن السياسة بهذه الدول تلعب دورا هاما في تحقيق التنمية وتوفير الرفاهية لمجتمعاتها. بمعنى أن التحالف الحكومي يقوم بناء على وجود أرضية مشتركة بين أحزابه مثل التحالف الذي يقع بين الأحزاب ذات المرجعية الليبرالية، أو الأحزاب المحافظة، أو بين الأحزاب ذات المرجعية الاشتراكية، ومثال على ذلك ما يقع في فرنسا (ذات النموذج النصف رئاسي) أو ما يقع في إيطاليا وألمانيا وباقي الأنظمة البرلمانية الأوروبية الأخرى.
لكن على العكس من ذلك، نجد في الأنظمة السياسية للدول النامية، والمغرب أحدها، ممارسات سياسية هجينة في إنشاء التحالفات الحزبية لتشكيل الحكومات التي تقوم على أسس مغايرة لتلك الموجودة في الأنظمة الديمقراطية الغربية. الأمر يعود في كثير منه إلى غياب نظام حزبي واضح تتمايز فيه الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية، حيث نجد أحزابا قد تآكلت مرجعيتها الفكرية، ونفد رصيدها، وصارت بالمقابل تعتمد على المال السياسي لضمان استمراريتها في المشهد الحزبي عوض البرامج السياسية ذات الأسس الفكرية المنسجمة والواضحة. كما أنه ليس هناك اتفاق على التقنيات المؤسساتية التي عبرها تدار عملية الاقتراع وفرز التحالفات وجعلها متمايزة من جهة، ومنسجمة من جهة أخرى، وذلك عبر تبني الدولة لأنظمة انتخابية (نمط الاقتراع) لا تسمح بفرز أغلبية واضحة منبثقة عن العملية الانتخابية. أضف إلى ذلك هشاشة السلوك السياسي للناخبين وافتقاره إلى التأطير الفكري والسياسي الملتزم (كما ينص على ذلك الفصل 7 من الدستور)، الأمر الذي يؤدي في النهاية، عقب كل عملية انتخابية، إلى وجود خريطة حزبية وسياسية “مبلقنة” يصعب معها تشكيل حكومات على أساس برامج سياسية وأرضية فكرية واضحة.
وعليه، فإنه في ظل وجود معطيات كهذه تؤثث المشهدين السياسي والحزبي بالمغرب يقع ما يقع من تجاذبات، داخل التحالف الحكومي، أساسها الحرص على تحقيق المنفعة القصوى من وراء المناصب الحكومية للقيادات الحزبية المستوزرة ولمريديهم، خاصة حين تكون البنية الحكومية تشكل نموذجا ل “الأوليغارشية الاقتصادية الجديدة” بتعبير (دوفرجيه) التي تسيطر على مفارز السلطة فتجعلها في خدمة مصالحها، أكثر من أن تكون حريصة على خدمة الصالح العام الذي وإن تحقق في بعض أعمالها فإنه لا يأتي إلى عرضا وليس تأصيلا.
إن الفشل السياسي الذي تعاني منه حكومة السيد أخنوش مرده عوامل كثيرة أهمها: كون تحالف أغلبيته لا يقوم على أساس متين بدليل عدم الانسجام الموجود بين المرجعيات الفكرية والإيديولوجية لأحزابه حيث حزب رئيس الحكومة يمكن تصنيفه، إن صح التعبير، ب”الحزب الليبرالي”، وحزب الاستقلال الذي يمكن تصنيفه ك” حزب وسط أو المحافظ”، بينما حزب الأصالة والمعاصرة هو حزب عصي عن التصنيف كونه حزب يجمع خليطا فكريا غير منسجم بالمرة ( يمين-يسار-محافظ أو يسار-محافظ-يمين)، وأن الذي جمع تحالفه الحكومي هو تحقيق المصالح الذاتية المختلفة وبمستويات متعددة لمختلف أعضائه، وذلك في ظل الانحصار الشديد الذي يعرفه تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتجريم تنازع المصالح، والحد من استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، والشطط في استغلال مواقع النفوذ كما تنص على ذلك الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد. والدليل على ذلك تعدد قضايا تضارب المصالح الذي تغرق فيه هذه الحكومة انطلاقا من رئيسها وصولا إلى معظم وزرائها إن لم نقل كلهم ولا تجد من يمنعها من ذلك بسب ضعف أحزاب المعارضة وتشرذمها و الإصرار على شل عمل أجهزة الحكامة.
إن إجماع الشعب المغربي، باستثناء المنتفعين من هذه الحكومة، على صفرية حصيلة حكومة أخنوش في القطاعات الاجتماعية الأكثر حساسية بالنسبة للمجتمع، من صحة وتعليم وتشغيل وعدالة ومحاربة للفساد، لا يأتي من فراغ بل إنه يجد أساسه، من جهة، في الفكرة التي تعالجها هذه المقالة، وهي كون التحالفات الحكومية الهجينة للأحزاب ذات الخلفية الفكرية المتنافرة والتي تجمعها المصلحة الذاتية أكثر من المصلحة العامة ينتج عنه عرقلة للتنمية المنشودة، كما أن ذلك يرتبط من جهة أخرى بعدم تحمس أو تراجع الدولة عن التنزيل والتأويل الديموقراطي لدستور 2011، الذي جاء متقدما بكثير عن واقع الممارسة الفعلي، خاصة في مجال النص على تخليق الحياة السياسية وتوسيع المشاركة السياسية والتشجيع عليها، وضمان الحقوق والحريات الأساسية الفردية والجماعية، والتأكيد على الفصل بين السلطات وبالأخص تعزيز وضمان استقلال السلطة القضائية، وتقوية وتعزيز أدوار أجهزة الرقابة والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة كما تنص على ذلك المقتضيات الدستورية ذات الصلة.
إن النفس التقدمي لدستور 2011 كوثيقة دستورية فريدة في محيط عربي مضطرب منذ ما يسمى ب “الربيع العربي”، وبما يتضمنه من إيجابيات كثيرة على مستوى ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد القائم على التوازن بين الحريات والحقوق والواجبات، والتي كان بإمكان لو تم الالتزام بالتنزيل الديموقراطي والسليم لفصوله، أن يدفع المغرب قدما إلى تسلق مراتب جد متقدمة على مستوى الممارسة الديمقراطية والحكم الرشيد باعتبارهما رافعتين أساسيتين لتحقيق التنمية. ولهذا كان للتردد الذي طبع عمليتي التأويل والتنزيل الديموقراطي لدستور 2011 آثارا، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها كانت سببا في تأخر انطلاق المغرب إلى أفق رحب من الممارسة السياسية المستنيرة، وضمان وتعزيز الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعموم الشعب المغربي، وذلك نتيجة تداخل مجموعة من العوامل الخارجية والداخلية ساهمت في الحدد من سرعة التغيير المنشود نحو ترشيد العملية السياسية بما يضمن استدامة حكامة السياسات العامة. وبعيدا عن عرض العوامل الخارجية التي ساهمت في عملية فرملة سرعة قطار الانتقال الديمقراطي الذي بشر به دستور 2011، وذلك لأن المقام لا يسمح بذلك، فإنني سأركز هنا على العوامل الداخلية والتي يمكن تلخصيها في عاملين اثنين وهما:
أولا: عدم قدرة حكومة العدالة والتنمية، الأولى والثانية، على تحمل مسؤوليتها الكاملة في النضال من أجل الحرص على التأويل الديمقراطي لأحكام ومقتضيات الدستور الجديد وحرصها بدلا عن ذلك على البحث عن تسويات وترضيات مع الدولة تساعدها على ضمان استكمال ولايتها الحكومية (وذلك له علاقة وطيدة بطبيعة التحالف الهش الذي كانت تستند إليه، والذي جمعها مع أطياف سياسية حزبية لا تنضبط للتصنيف الحزبي السائد في الديمقراطيات الغربية على النحو الذي أوضحناه أعلاه).
أما العامل الثاني، فهو مرتبط بطبيعة النخب الحزبية والسياسية المترهلة المتصدرة للمشهد السياسي والحزبي، التي برهنت عن عجزها في مجارات تلك الروح التي أتى بها دستور 2011 وهو ما قد يكون، حسب مراقبين، قد أعطى مبررا للنظام السياسي المغربي على عدم الاستعجال/التراجع عن تفعيل جميع بنود وأحكام الدستور الجديد لعدم توفر البيئة المناسبة لذلك بسبب ضعف وعجز الطبقة السياسية الموجودة، وفشلها في التقاط إشارات الدولة ومن أعلى مستوى من أجل التَّغيُّر والتَّغيير بما تقتضيه متطلبات المرحلة الجديدة التي أسس لها الدستور الجديد.
إن معالجة الفكرة التي يثيرها العامل الثاني، يستلزم من الدولة وبشكل مستعجل التأسيس لمرحلة جديدة مهمة في الحياة السياسية والحزبية لبلدنا وذلك بالعمل على:
1-العمل على تعزيز وتقوية حكامة الأداء الحكومي من خلال تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومعه تفعيل أدوار جميع أجهزة الرقابة وتعزيز استقلالية السلطتين التشريعية والقضائية لمراقبة وضمان نجاعة الأداء الحكومي ومختلف الأجهزة الإدارية ذات الصلة.
2-رفع وثيرة تنزيل وتفعيل الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، التي تم الإعلان عنها منذ 2016، في مختلف القطاعات وعلى قدم المساواة أمام القانون.
3- العمل على التنزيل التام والناجز لبنود وأحكام الدستور ذات الصلة بتخليق الحياة السياسية وتشبيبها، وضمان مشاركة أوسع للأفراد فيها مع ابتداع آليات منسابة لتحقيق ذلك؛
4-عقلنة المشهد الحزبي وفرض معايير جديدة لاستفادة الأحزاب من الدعم العمومي يقوم على فرض الديمقراطية الداخلية للأحزاب وتشبيب أطرها مما يؤدي إلى ظهور نخب سياسية وحزبية جديدة وإنهاء الحياة السياسية لمحترفي السياسية من جيل المعمرين القدامى، تلك المعايير يجب أن تقوم على مجموعة من المؤشرات يشكل توفرها من عدمها حاسما في استفادة أو حرمان هذه الحزب أو ذاك من الدعم العمومي.