مقدمة: من جدل الهوية إلى سؤال التنظيم
تعيش فرنسا اليوم واحدة من أعقد المعضلات الفكرية والسياسية في علاقتها مع الإسلام. فالأزمة لم تعد مجرد نقاش حول الممارسات الدينية أو قضايا الاندماج، بل تحوّلت إلى سؤال بنيوي حول موقع الإسلام في الفضاء العمومي لجمهورية تُعرّف نفسها بالعلمانية الصارمة.
إنّ الحديث عن “تنظيم الإسلام” لا يختزل في مسألة إدارية أو طقوسية، بل يعكس حدود النموذج الفرنسي في إدارة التعدد الثقافي والديني، كما يكشف في الآن ذاته عن درجة النضج الذاتي لدى المسلمين في فرنسا وقدرتهم على بناء تمثيل مستقل ومتوازن. من هنا تتقاطع الأزمة في مستويين متوازيين: تحدي الدولة التي تسعى إلى الضبط، وتحدي الذات المسلمة التي تبحث عن تماسكها الداخلي.
أولاً: الدولة وإغراء الضبط
منذ صدور قانون مبادئ الجمهورية سنة 2021، دخلت فرنسا مرحلة جديدة من تأطير الشأن الديني، حيث انتقل الخطاب الرسمي من منطق الشراكة إلى منطق المراقبة. فالدولة، تحت ذريعة حماية قيم الجمهورية، تعيد هندسة الفضاء الديني الإسلامي عبر أدوات قانونية وتنظيمية، لتجعله منسجمًا مع تصورها الخاص للعلمانية والاندماج.
التحول من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM) إلى تعزيز دور منتدى الإسلام في فرنسا مثّل لحظة كاشفة لهذا التوجه. فالمنتدى لم يولد من حركية مجتمعية طبيعية، بل من إرادة سياسية تسعى إلى هندسة التمثيل الديني بما يتوافق مع منطق الدولة، مما جعل “تنظيم الإسلام” أقرب إلى امتداد للسياسة الأمنية منه إلى استجابة لتطلعات الجاليات المسلمة.
ثانياً: الإرث التاريخي وأزمة الثقة
لا يمكن فهم الأزمة الراهنة دون استحضار الخلفية التاريخية التي تشكل الوعي المتبادل بين الدولة الفرنسية والجاليات المسلمة. فالإرث الاستعماري، خصوصًا في شمال إفريقيا، ترك أثرًا نفسيًا ورمزيًا عميقًا ما زال ينعكس في علاقة الريبة واللاتكافؤ.
هذا البعد التاريخي يجعل أي حوار بين الطرفين محمّلًا بمشاعر مركّبة من الحذر، ويجعل بناء شراكة قائمة على الثقة أمرًا بالغ الصعوبة.
ثالثاً: المجتمع المسلم وتحدي التشتت
يعاني المجتمع المسلم في فرنسا من تشرذم مزمن يضعف قدرته على الفعل الجماعي. تتعدد المرجعيات القومية والمذهبية، ويغيب التنسيق بين الفاعلين والمؤسسات. أما التمويل الخارجي فيزيد المشهد تعقيدًا، إذ يربط جزءًا من القرار الديني بمصالح سياسية عابرة للحدود.
أمام هذه الهشاشة، تبدو المؤسسات الدينية الإسلامية في فرنسا محاصرة بين خطاب روحي مثالي ومتطلبات واقعية معقدة، فتفقد أحيانًا فاعليتها ومصداقيتها. كما أنّ مشاريع التمويل المحلي لا تزال محدودة، مما يجعل الاستقلال المالي والمؤسسي هدفًا بعيد المنال.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة في فلسطين، ولا سيما الحرب على غزة وما رافقها من محاولات إبادة جماعية بحق المدنيين، عن بُعدٍ جديد في علاقة المسلمين الفرنسيين بدينهم وهويتهم الجماعية.
فقد شكّل التضامن الواسع مع الشعب الفلسطيني لحظة استثنائية أعادت توحيد المشاعر الدينية والإنسانية لدى أغلب المسلمين، بغضّ النظر عن أصولهم القومية أو المرجعية المذهبية.
لكن هذه اللحظة نفسها كشفت أيضًا حدود الخطاب الديني الرسمي وبعض مظاهر الازدواجية في المواقف.
ففي الوقت الذي عبّر فيه عدد كبير من المسلمين عن دعمهم الصريح لغزة ورفضهم للمعايير المزدوجة في التغطية السياسية والإعلامية الفرنسية، آثر بعض الفاعلين الدينيين انتهاج سياسة الإمساك بالعصا من الوسط، مراهنين على خطاب غامض يوازن بين إدانة العنف والتلميح إلى تفهّم المقاومة.
ويبرز هنا النموذج الدالّ في مواقف عميد مسجد باريس شمس الدين حفيظ، الذي يتأرجح خطابه بين تصريحات إعلامية تدين حماس وتتبنّى الموقف الرسمي الفرنسي، وأحاديث داخلية تعبّر عن تعاطف غير معلن مع الفلسطينيين.
هذا التناقض يعكس عمق الأزمة التي يعيشها تمثيل الإسلام في فرنسا: أزمة في المصداقية والوضوح، وأزمة في التوفيق بين مقتضيات المواطنة ومشاعر الانتماء إلى أمة تتجاوز الحدود الوطنية.
رابعاً: النماذج الدينية بين الاستلهام والحدود
النموذج المغربي بين الاستلهام والحدود
يُعَدّ النموذج المغربي القائم على مؤسسة إمارة المؤمنينووحدة المرجعية الدينية مثالًا فريدًا على إمكانية توفير إطار مؤسسي مستقر للجاليات المسلمة في أوروبا، خصوصًا الجالية المغربية وبعض المجموعات الإفريقية المرتبطة تاريخيًا بالمغرب.
فهذا النموذج يجمع بين المرجعية العقدية الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني، في توليفة تمنح الخطاب الديني المغربي اتزانًا ووسطية، وتؤطر العلاقة بين الديني والسياسي ضمن نظام يحقق الانسجام بين الشرعية الدينية والسيادة الوطنية.
غير أن نقل هذا النموذج إلى السياق الفرنسي يواجه تحديات هيكلية متعددة، تكشف عن فجوة بين قوة المرجعية الأصلية وصعوبة تمثلها في فضاء أوروبي علماني متحوّل.
يمكن تلخيص هذه التحديات في ثلاثة مستويات رئيسية:
1. الأئمة الحاليون وانتهاء الجيل:
عدد مهم من الأئمة والمسؤولين عن كبرى المساجد المغربية في فرنسا — مثل إيفري، سان إتيان، ستراسبورغ، ومونت لاجولي — ينتمي إلى جيل تأسيسي بدأ يقترب من نهايته. هؤلاء يمثلون ذاكرة التجربة، لكنهم يجدون صعوبة متزايدة في مواكبة التحولات الفكرية والاجتماعية التي يعيشها المسلمون الفرنسيون من الجيلين الثاني والثالث.
هذا الوضع يعكس هشاشة البنية المؤسسية التي تعتمد على عدد محدود من الكفاءات، مما يجعل أي خلل في التعيين أو ضعف في التأهيل ينعكس مباشرة على صورة المؤسسات وشرعية إمارة المؤمنين في الخارج.
وتبرز هذه الإشكالية مؤخرًا في بعض الاضطرابات التي رافقت تعيين المسؤولين داخل المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، بما كشف عن الحاجة إلى إصلاح داخلي أعمق.
2. إشكالية التعيين والشرعية:
في بعض الحالات، يتم اختيار الأئمة أو الممثلين الدينيين بناءً على معايير الولاء الإداري أكثر من الكفاءة العلمية أو التواصلية، مما يُضعف من قدرة المؤسسات على إنتاج خطاب ديني فاعل ومؤثر في السياق الأوروبي.
إنّ ضعف آليات التقييم والمحاسبة داخل منظومة التمثيل الديني يؤدي إلى فجوة بين الخطاب الرسمي المعلن، الذي يدعو إلى الوسطية والانفتاح، والممارسة الواقعية التي قد تبقى رهينة لمنطق الهرمية والتبعية.
3. الفجوة السياقية والمعرفية:
رغم صلابة المرجعية المغربية، فإنّ أدوات فهم الواقع الفرنسي تبقى محدودة لدى كثير من الأئمة الموفدين أو المكوّنين وفق مناهج تقليدية.
فالجيلان الثاني والثالث من المسلمين الفرنسيين يعيشان تجربة دينية وثقافية مغايرة تمامًا: فهو جيل متشبع بقيم المواطنة، يعيش تعددية الهويات، ويطلب خطابًا دينيًا حديثًا قادرًا على ترجمة الإيمان بلغة مدنية.
غياب هذا الفهم السياقي يجعل بعض المبادرات الدينية المغربية تبدو وكأنها “استيراد مرجعية” أكثر من كونها “تكييفًا واعيًا” مع البيئة الفرنسية.
من ثَمّ، فإنّ نجاح النموذج المغربي في فرنسا لن يتحقق بمجرد تصدير المرجعية، بل بقدرة هذه المرجعية على إعادة إنتاج ذاتها فكريًا ومؤسسيًا داخل السياق الأوروبي.
يتطلب ذلك تأهيل جيل جديد من الأئمة والمفكرين يجمعون بين التكوين الشرعي العميق والمعرفة الدقيقة بالمجتمع الفرنسي، ويشتغلون ضمن رؤية تتجاوز منطق التعيين الإداري نحو منطق الشراكة الثقافية والفكرية.
بهذا المعنى، يصبح الرهان الحقيقي هو ضمان استمرارية الخطاب الوسطي وشرعية المرجعية، مع بناء جسور معرفية قادرة على ترجمة قيم إمارة المؤمنين في بيئة جمهورية علمانية دون تناقض أو تبعية.
النموذجان التركي والجزائري
أما النموذج التركي، فرغم خبرته الطويلة في التنظيم، فإنه يميل إلى الانغلاق القومي، ويُدار غالبًا من أنقرة عبر مؤسسات الدولة التركية (Diyanet)، مما يقلّل من انفتاحه على باقي المكونات الإسلامية في فرنسا.
في المقابل، يبقى التمثيل الجزائري فاقدًا لبنية مؤسسية متماسكة، إذ يتأثر بالتجاذبات الداخلية وبثقل المؤسسة العسكرية في إدارة الشأن الديني، ما يجعله أقرب إلى إدارة ظرفية منه إلى نموذج مستقل.
تفكيك النموذج الهجين
بحسب دارسي الإسلام في فرنسا، لا يمكن اعتبار اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (Musulmans de France) نموذجًا أصيلاً أو مكتملًا، بل هو كيان هجين نشأ في توازن دقيق بين المرجعيات الخارجية وضغوط الدولة الفرنسية. فمع أنّه حاول في بداياته التكيف مع القيم الجمهورية، ظل يحمل في جذوره أثرًا من البنية التنظيمية لحركة الإخوان المسلمين في أوروبا.
حتى بعد تحوّله الرسمي وتغيير اسمه، بقي هذا التحول أقرب إلى استجابة ظرفية للضغوط السياسية والأمنية منه إلى تطور داخلي نابع من مراجعة فكرية مؤسسية.
تساؤلات مصيرية حول التفكيك
شهدت السنوات الأخيرة تحوّلًا جذريًا في السياسة الفرنسية تجاه هذا التيار، حيث انتقلت من منطق “التسامح المشروط” إلى منطق “التقييد والتفكيك”.
وقد تجلى ذلك في إغلاق عدد من المؤسسات التابعة له، أبرزها المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في شاتو-شينون، وفي قرارات طرد أو تقييد لنشاط بعض قادته.
يبقى السؤال المطروح اليوم:
هل سيؤدي هذا التفكيك إلى فراغ خطير في التكوين الديني، أم أنه سيفتح الباب أمام ولادة نموذج فرنسي أصيل ومستقل عن التوترات الأيديولوجية العابرة للحدود؟
ثم، هل تستطيع الدولة وحدها أن تُنتج نموذجًا دينيًا حقيقيًا دون استناد إلى تراث فقهي وتاريخي عميق؟
خامساً: الشباب والنساء… الحاضرون الغائبون
رغم أنّ الشباب والنساء يشكّلون غالبية المسلمين في فرنسا، إلا أن حضورهم داخل المؤسسات الدينية لا يزال رمزيًا.
ويرجع ذلك إلى فجوة معرفية وثقافية بين خطاب هذه المؤسسات وبين تطلعات الجيل الجديد الذي يعيش ازدواجية الهوية بشكل يومي، بين الإسلام كانتماء روحي، والجمهورية كفضاء مواطني.
تجارب محدودة مثل “معهد التكوين في الدراسات الإسلامية” تُظهر إمكانية تكوين أئمة ومفكرين يجمعون بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، بما يسمح بإنتاج خطاب ديني مدني حديث، يتفاعل مع قيم المواطنة دون أن يفقد عمقه الروحي.
سادساً: ما بعد الجيل الحالي من الأئمة
يمثّل رحيل الجيل الحالي من الأئمة والمسؤولين الدينيين في فرنسا لحظة فارقة في مسار تنظيم الإسلام. فمعظم هؤلاء الأئمة راكموا خبرات ميدانية واسعة على امتداد عقود، وكانوا حلقة وصل بين المؤسسات التقليدية في بلدانهم الأصلية والمجتمع الفرنسي بمختلف تحولاته.
غير أنّ تقدّمهم في السنّ وغياب خلف مؤهل يثير سؤال الاستمرارية والانتقال المؤسسي.
إنّ مستقبل الخطاب الديني في فرنسا سيتوقف على قدرة المؤسسات الإسلامية على تأهيل جيل جديد من الأئمة والمفكرين يجمع بين المعرفة الشرعية الراسخة والفهم العميق للمجتمع الفرنسي وقيمه الجمهورية.
ويتطلب ذلك إنشاء برامج تكوينية استراتيجية تدمج بين العلوم الإسلامية والعلوم الاجتماعية والسياسية، بما يمكّن الأئمة الجدد من إدارة الحوار الديني في فضاء متعدد الثقافات دون انغلاق أو قطيعة ثقافية.
فالمطلوب اليوم ليس فقط نقل المرجعية، بل إعادة إنتاجها ضمن سياق معرفي جديد ينسجم مع تحديات المواطنة والتنوع الديني في أوروبا.
خاتمة: نحو فكر إصلاحي مزدوج
الأزمة الراهنة ليست قدَرًا حتميًا، بل فرصة لإعادة التفكير في موقع الإسلام داخل الفضاء الجمهوري الفرنسي.
فلا الدولة قادرة على فرض نموذج جاهز من الأعلى، ولا الجاليات المسلمة قادرة على الاكتفاء بدور المتلقي أو الضحية.
إنّ تجاوز الأزمة يمر عبر فكر إصلاحي مزدوج:
• تحرير الدولة من هاجس المراقبة الأمنية الذي يُفرغ العلمانية من بعدها التحرّري، والانتقال نحو منطق الشراكة والتمكين.
• تحرير المؤسسات الإسلامية من الانغلاق والوصاية، وفتح المجال أمام كفاءات فكرية شابة تمتلك حسّ المواطنة وعمق الانتماء الديني، مع القدرة على إدارة المؤسسات بطريقة شفافة وفعالة.
فقط عبر هذا التوازن بين إصلاح الدولة وتمكين المجتمع المسلم، يمكن للإسلام في فرنسا أن يتحول من موضوع أزمة إلى مصدر فكر جديد حول العيش المشترك في القرن الحادي والعشرين، يجمع بين الانتماء الروحي والمواطنة الفاعلة، ويحقق استدامة التمثيل الديني ووسطية الخطاب في بيئة علمانية معقدة.