وجهة نظر

جيل “Z ” يحاور الدستور ويسائل المسؤولية السياسية للحكومة أمام الرأي العام

توطئة لا بد منها

لا مناص من الإشادة بالحراك الشبابي السلمي، ففي سلميته جمالٌ وضرورة، تحميه من براثن الفوضى. ولسنا نبالغ إذا قلنا إن ذروة جماله ستكون حين يتحول إلى حَراكٍ فكري يثري السجال المجتمعي والسياسي. لقد نبعت هذه المسيرات من رحم مطالب اجتماعية عادلة، تمحورت حول إصلاح التعليم والصحة، وهي قضايا تُجمع عليها الأمة بقلوبها قبل عقولها.

وما أضفى تميزاً على هذا الحراك الشبابي هو جرأته وانفتاحه على نصوص الدستور والاحتكام إليها والاحتجاج بها، فما المانع في ذلك؟ أليس الدستور هو المرجعية العليا التي تمثل الإطار الجامع للجميع؟ وإذا كان الفقهاء والمتخصصون أنفسهم يختلفون في تفسير نصوصه، فمن الطبيعي – بل من الصحي – أن نقبل بقراءة الجميع له، وأن تكون قراءة الشباب له جزءاً من هذا السجال الفكري البناء.

من الجميل أيضا أن يتحول اليوم النقاش الدستوري إلى شأنٍ عام، فيصبح الدستور هو النص الأقدر فعليا على تجسيد الإرادة الجماعية. بل، والأجمل أن يتحاور الشباب في فصوله ومواده، مُخرجين إياه من الرفوف إلى ساحة الحوار الشعبي … والأجمل من ذلك كله، أن يلجأ الشباب إلى الدستور بصفته الملاذَ الأمين الذي يفترض أن يحمي حقوقهم ويصون حرياتهم. هؤلاء الذين نادوا بالحرية، انطلاقاً من إيمانهم الراسخ بأن ثمة حقوقاً يجب أن تُصان وحرياتٍ لا يجوز المساس بها. …

فبأي حقٍ يُسكَت صوتهم، من طرف من يدعي المعرفة المفترضة، بمنطق أن الشأن الدستوري يتجاوز اختصاصهم، وأنهم لا يدركون جوهره! … وهنا نتساءل، من يحسم قراءة الدستور وتحديد معناه من بين المتخصصين؟ الإجابة المباشرة: لا أحد. حتى الاجتهادات القضائية تختلف في كثير من الأحيان. وهذا من خصائص القانون الدستوري ذاته. والقصد؛ أن الدستور لا يُقرأ كنص جامد فحسب، بل يُفهم من خلال روحه ومقاصده العامة، ويقرأ في إطار وحدته العضوية، وكذا من خلال الممارسة السياسية العملية والتطبيق المتطورة. وهذه الممارسة تتجدد باستمرار، كما أن الفهم البشري لها يتطور ولا يتجمد. وأصل القول إن القاعدة القانونية بأكملها – والدستور في مقدمتها – هي في جوهرها قاعدة اجتماعية، أي أنها نابعة من المجتمع وخاضعة لتطوره. وبالتالي، فإن فهمنا لها يتجدد ويتطور حتماً مع تطور المجتمع نفسه. وإلا، فما الحكمة من وجود آليات “التعديل والمراجعة الدستورية” إلا إقراراً بهذه الحقيقة ذاتها؟

المنطلق التأسيسي الأول: المسؤولية السياسية للحكومة تُفَعل على مستويين؟

لا يمكن فهم مجموعة الآليات الدستورية المعروفة – كالاستقالة، والإعفاء الملكي، والإقالة بموجب ملتمس الرقابة، إعفاء الوزراء، أو حل البرلمان، وغيرها من التقنيات- دون الرجوع إلى الأساس النظري وضبط مفهوم المسؤولية السياسية للحكومة، ومستويات تطبيقها. وفي هذا الإطار، تُنظّم المسؤولية السياسية للحكومة على مستويين رئيسيين: مؤسساتي ومجتمعي.

المستوى المؤسساتي: ويمثل المسؤولية السياسية للحكومة أمام كل من: الملك: رئيس الدولة سواءً كانت سابقة أم لاحقة. والبرلمان: من خلال آلية ملتمس الرقابة كأداة جوهرية لتطبيقها. المستوى الثاني، حيث ننتقل بالمسؤولية السياسية من مستواها المؤسساتي إلى مستوى المسؤولية السياسية للحكومة أمام الرأي العام، والتي غالباً ما تجسدها التحركات الاحتجاجية كإطار أساسي للتعبير عنها.

المنطلق التأسيسي الثاني: كيف يمكن تصور تفعيل تقنيات المحاسبة والمسؤولية السياسية بالاستقالة أو الإعفاء أمام القول بالشرعية الديمقراطية للحكومة.

إن الادعاء بعدم جواز تقديم استقالة الحكومة بحجة أنها حظيت بأصوات جزء من الشعب في الانتخابات… قولٌ يبدو ظاهره مقنعًا، لكن باطنه يحمل تضليلاً وقصورًا في الفهم قد يكون متعمدًا. يدفعنا هذا الادعاء إلى مُناقلة تأسيسية لطبيعة المسؤولية السياسية للحكومة، وكيف يمكن التوفيق بين حق الملك في إعفاء الحكومة، أو بعض أعضائها بمنطق الفشل في تدبير الشأن العام وبموجب اختصاصه الدستوري بضمان حسن سير المؤسسة الحكومية، وبين منطق الشرعية الديمقراطية التي اكتسبتها يوم تعيين رئيسها من الحزب المتصدر.

كما سبقت الإشارة، تتوزع المسؤولية السياسية للحكومة على مستويين متكاملين:

المستوى المؤسساتي الرسمي: ويتجلى في: أولا؛ مسؤوليتها أمام الملك، والتي تُمارس عبر القنوات الدستورية، وأبرزها المجلس الوزاري بموجب الفصل 49. وهي مسؤولية قبلية أثناء مناقشة السياسة العامة التي تداولت فيها الحكومة بموجب الفصل 92، لأنها تعرض لزاما على المجلس الوزاري. وأيضا مسؤولية لاحقة، حيث يحضر الملك كمراقب سياسي بعدي بالالتزام بالتدبير السليم وحسن سير المؤسسة. ثانيا؛ مسؤوليتها أمام مؤسسة البرلمان بعد التنصيب التنصيب البرلماني والتصويت على البرنامج الحكومي، وآليتها الأساسية هي ملتمس الرقابة عند الإخفاق بالالتزام بالبرنامج المصوت عليه.

المستوى الثاني مستوى غير المباشر: وهو مسؤوليتها السياسية والأخلاقية أمام الرأي العام، وهنا ننتقل من المسؤولية السياسية المؤسساتية إلى مسؤولية سياسية أمام الرأي العام، حيث تمثل الاحتجاجات وضغط الشارع المحرك الرئيسي لهذا المستوى. ولنا في تجربة ماما فرنسا، وغيرها من التجارب، خير مثال، حيث أطاحت الاحتجاجات الشبابية والطلابية في مايو 1968 بحكومة الجنرال شارل ديغول من خلال خلق أزمة سياسية واجتماعية غير مسبوقة كشفت عن عزله عن شرائح واسعة من المجتمع، وبلغت ذروتها بإضراب عام ضخم شل البلاد، مما دفعه لحل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة، والتي انتهت باستقالته بعد عام. بمعنى أن منطق المسؤولية السياسية للحكومة أمام الراي العام حاضر ولا يمكن لأحد تجاهله.

المنطلق التأسيسي الثالث: سؤال التصويت الانتخابي

أما فيما يختص بشرعية التصويت الانتخابي، مرحلة الزمن الانتخابي الأول، فلا بد من توضيح مسألتين جوهريتين: أولاً: الغاية من الانتخابات التشريعية في دورتها الأولى هي الوصول إلى أغلبية برلمانية تمكن من تشكيل حكومة حزبية، مع التقيد بالضوابط الدستورية التي توجب على الملك، بموجب الفصل 47 من الدستور، تكليف الحزب المتصدر بتشكيل الحكومة، والتي هي في الغالب حكومة حزبية ائتلافية، نظرًا لصعوبة حصول أي حزب على أغلبية مطلقة في النظام الانتخابي المغربي تسمح له بتشكيل حكومة بمفرده وفرض برنامجه– وهو ما حصل مع الحكومة الحالية. ثانيًا: بمجرد تشكيل الحكومة، تنتهي مرحلة “الشرعية الانتخابية الأولية” لتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة التكليف بالتدبير والتسيير للشأن العام. وهنا، لا يصح الاحتماء بالتصويت الشعبي السابق، لأن المقياس الحقيقي يصبح هو حسن سير المؤسسة الحكومية ونجاعة الأداء وكفاءة الإدارة والتدبير.

من هذا المنطلق، تنشأ المسؤولية السياسية للحكومة بشكلها الكامل: مساءلة أمام المؤسسات الدستورية (الملك والبرلمان)، ومساءلة أمام الرأي العام، سواء من صوت لها أو من صوت لغيرها أو من لم يصوت، فالحكومة حكومة مغربية تمثل الجميع. وما يهمنا في هذه المرحلة شرعية القول بالمسؤولية السياسية للحكومة أمام الراي العام، الذي يمثل ضمير الأمة ورقابتها المستمرة.

وعليه، فإن تمسك الحكومة، كما جاء على لسان أحد وزرائها، بحجة عدم تقديم الاستقالة لأن “جزءًا من الشعب قد صوت لها” هو حجة واهية، لأن من صوتوا لم يكونوا يمنحون **شيكًا على بياض**، بل كانوا يصوتون على **عهد بالتدبير الناجح**. فإذا فشلت الحكومة في الوفاء بهذا العهد، سقطت الحجة التي تتذرع بها، وأصبحت مسؤوليتها السياسية والأخلاقية أمام الشعب هي الحكم.

المنطلق التأسيسي الرابع: إطلالة عابرة على الممارسة السابقة

العجيب أن نرى بعضاً ممن عرفناهم طويلاً مهاجمين للدستور، إذا بهم يتحولون فجأة إلى مدافعين عن المنطق الديمقراطي الذي ينص عليه! يا للمفارقة!

تتعرض الساحة الفكرية اليوم لموجة من الخطاب يتبناها وعاظ جدد، وآخرون يسعون إلى تشكيل تصورات مغايرة في الرأي العام… يا للمفارقة! فبشكل مفاجئ، أصبح البعض يصور الملك مقيداً فيما يخص مسألة الإعفاء؟! إن هؤلاء أنفسهم الذين أيدوا الممارسة السياسية والدستورية في تجربة عام 2017 عندما تم إعفاء رئيس الحكومة المُكلف واستبداله بآخر… وهللوا ودافعوا عن هذه الممارسة آنذاك.

لو أنهم عادوا لقراءة بلاغ الديوان الملكي الصادر في تلك المرحلة، لوجدوا أن أحداً لم يعترض على ذلك القرار السامي، بل على العكس، هنأ الجميع الخيارات الدستورية التي يمنحها الدستور للملك في هذا المجال، استناداً إلى الفصل 47 الذي يلزم الملك بتعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للنتائج الانتخابية، والفصل 42 الذي يخول له سلطة تقديرية للتدخل استباقياً لتجاوز كل ما يمكن أن يشكل أزمة أو شللًا للبلاد. فطبقاً لصريح ومنطوق بلاغ الديوان الملكي، … تدخل جلالة الملك بصفته الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات، والمؤتمن على المصالح العليا للوطن والمواطنين، وحرصاً منه على “تجاوز وضعية الجمود” الراهنة آنذاك. إذا كانت تلك المرحلة عشنا وضعية الجمود السياسي كما جاء في بلاغ الديوان الملكي، اليوم يمكن القول إننا نعيش على الأقل فشل مجموعة من القطاعات باعتراف المسؤولين عليها. فماذا يُنتظر ممن يعلن فشله في التدبير؟ وأي دور ينتظر برلماناً صامتاً يقف متفرجاً رغم تملكه أداة ملتمس الرقابة في إطار مسؤولية الحكومة أمام البرلمان؟، هل الوقت للأسئلة الشفوية.

موقفي هنا لا يقدم حلولاً سياسية جاهزة، ولا ينحاز إلى خيار محدد، من خلال هذه الأمثلة …. بل أدافع عن فكرة جوهرية واحدة: حسب رأيي المتواضع والقابل للنقاش أكيد: إن القراءة الصحيحة للدستور تقوم على ثلاثية متكاملة؛ نصه الحرفي، وروحه التأسيسية، والممارسة العملية المتطورة على أرض الواقع والمنفتحة على المجال السياسي.

ومن هذا المنطلق، أرى أنه لا بد من تشجيع أي نقاش فكري جاد حول الوثيقة الدستورية، وأن تكون رحابها مفتوحة للجميع بلا استثناء: شباباً وشيوخاً، نساءً ورجالاً، نقاش يشمل كل الأجيال. فقط، بهذا أن نؤسس لـ ثقافة دستورية وسياسية جديدة، تتبناها قيادة جيل جديد واعد.”