وجهة نظر

محام ضعيف لقضية عادلة: أزمة التواصل في زمن التضليل

في زمن التهافت السياسي والصخب الجماهيري تضيع الحقيقة بين من لا يحسن عرضها (الحكومة) ومن يتقن طمسها (المعارضة) ومن يختار الصمت عنها (أحزاب الأغلبية)، لذلك نحن اليوم أمام مرحلة لا تقبل الحياد، لأن الحياد في معركة الوعي هو انحياز واضح للباطل. فحين يعلو صوت التضليل، وتدفن الحقائق تحت ركام الإشاعات، يصبح الكلام واجبا، والموقف ضرورة، والصدق مقاومة.. إنها لحظة فارقة لا تحتمل مجاملة الحراك الشبابي والتنكر لإنجازات الحكومة الحالية لمجرد التموقع ضمن هذا الجو المشحون، فما نفهمه من الفرنسي غوستاف لوبون صاحب “سيكولوجية الجماهير” أن من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيدا لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح لهم عدوا، ولعلنا نستذكر هنا الأحداث الأخيرة حين تحولت جموع المتظاهرين إلى كيانات عاطفية قابلة للاستثارة، وهذا بالضبط ما يحاول البعض تحقيقه من خلال تحويل الشباب من فئة واعية إلى جماهير هائجة تستجيب للعاطفة أكثر من استجابتها للمنطق، الشيء الذي تعكسه الهجمة الشرسة على السيد رئيس الحكومة، فرغم ما يحاك حوله من حملات مغرضة، يبقى عزيز أخنوش عنوانا لسياسة واقعية تشتغل بصمت بعيدا عن ضوضاء الشعارات والبهرجة الإعلامية.

قد لا يجيد لغة الخطابة الشعبوية، ولا يجري وراء الكاميرات، لكنه اختار أن يتحدث بلغة المشاريع لا بلغة المزايدات، وأن يجعل من مؤشرات الإنجاز الحكومي رده العملي على كل حملات التضليل والتشكيك.

لأجل ذلك.. نحن اليوم نصدح بقناعتنا ليس دفاعا عن الحكومة.. بل دفاعا عن الحقيقة المغيبة وسط صخب التضليل، لأننا ندرك تمام الإدراك بأن المعركة الحالية ليست معركة قرارات، بل هي معركة رواية، رواية الإنصاف مقابل رواية التضليل، وهنا تبرز ثلاث محاور رئيسية ترسم ملامح المشهد في الساحة السياسية على ضوء الاحتجاجات الأخيرة، سنحاول رصدها هنا عبر قراء تفكيكية لهذا المشهد:

معركة الحقيقة

يشكل هذا المحور التناقض الجوهري بين الرصيد المادي المنجز وقدرة الحكومة على الدفاع عن مشروعها وعرض منجزاتها، فهذه الإنجازات ملموسة على أرض الواقع في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والبنية التحتية، لكنها تحتاج إلى نهج تواصلي مبتكر يتناغم مع لغة الجيل الجديد، إذ لا تزال الحكومة تفتقر إلى استراتيجيات المرافعة الذكية، ولم تنجح بعد في صياغة خطاب يتجاوز الأساليب التقليدية ويسد الفجوة التواصلية، إنها أزمة عرض لا أزمة مضمون، حيث تملك الحكومة قضية عادلة، لكنها تفتقر إلى من يتقن فن المرافعة أمام محكمة الرأي العام، بلغة يفهمها الجيل الجديد ويثق بها.

2. معركة التضليل

في قلب المشهد السياسي الراهن، تبرز معركة التضليل كأحد أخطر التحديات التي تواجه الوعي الجماعي، حيث يطلق خصوم الحكومة حملات ممنهجة تستهدف بشكل خاص شريحة الشباب من الجيل Z، عبر وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام.

تعتمد هذه الخطة على نشر سيل من الإشاعات والمغالطات، بهدف تشويه صورة الحكومة وإضعاف الثقة في أدائها، من خلال استراتيجية “صناعة الإحباط” التي تهدف إلى تزييف الوعي الجمعي، وخلق واقع افتراضي مشوه، بدلا من تقديم نقد بناء أو طرح بدائل واقعية.

وتعد هذه الحملات جزءا من حرب نفسية تستغل انسيابية المعلومات وانتشار المنصات الرقمية، فتقدم محتويات تتناسب مع الخصائص النفسية والاجتماعية للشباب، مما يجعلها أكثر تأثيرا وخطورة على التماسك المجتمعي والثقة في مؤسسات الدولة.

3. معركة الصمت

تعد هذه المعركة الأخطر، فهي تتعلق بـالتقاعس المتعمد من قبل فئة من الفاعلين القادرين على ترجيح كفة الحقيقة، حيث ينتهج خيار الصمت واللامبالاة بعض السياسيين والمثقفين والمؤثرين (ينتمي بعضهم إلى الأحزاب المشكلة للحكومة)، متذرعين بالحذر أو الحسابات الضيقة. لكن هذا الصمت، في لحظة يستهدف فيها الوعي العام، لا يعتبر موقفا محايدا، بل تواطؤا ضمنيا مع الزيف. فالحقيقة التي لا تجد من يصدح بها تترك فريسة للتزييف، والإنجازات التي لا تروى تنسى، لذلك، لم يعد الصمت خيارا، بل عبئا أخلاقيا قبل أن يكون التزاما سياسيا تمليه حسابات الانتماء. إن المرحلة الراهنة تتطلب كسر حاجز الصمت، فالإنجازات التنموية والحقائق الملموسة لا تستطيع الدفاع عن نفسها تلقائيا في فضاء إعلامي مشحون، بل تحتاج إلى من يتبناها ويقدمها للرأي العام بجرأة ووضوح، قبل أن تطمسها حملات التشويه المنظمة.

ختاما..

في نهاية هذا المشهد المزدحم بالتأويلات، يبقى السؤال الأهم: من يحمل شعلة الحقيقة وسط هذه العاصفة الهوجاء؟ فالحكومة التي تستوزر وجوها لا تتقن فن التواصل، والمعارضة التي تصرخ بلا مضمون، والأغلبية التي تتنكر لميثاقها، كلهم يصنعون مشهدا مرتبكا لا ينصف الوقائع على الأرض، فالحق الذي لا يدافع عنه أهله، يصبح غريبا في وطنه. مما يزيد في منسوب الاحتقان الشعبي المفعم بأباطيل الخطابات المؤدلجة التي وجدت في الأحداث الأخيرة تربة خصبة لاستنبات مشروعها الراديكالي.

لكن الحقيقة، وإن خفت صوتها وسط الصخب فهي لا تموت. والرهان الحقيقي هو على من يملك الشجاعة ليقول: هذا حق يجب أن يقال، وهذا زيف يجب أن يفضح.

لأن الأوطان لا تبنى بالصراخ، ولا تحمى بالصمت، بل تصان بالكلمة الصادقة حين تقال في وجه إعلام جائر.