وجهة نظر

محاولة في فهم ما يجري في المغرب على خلفية مظاهرات “جيل Z 212”

تثير مظاهرات الشباب الموسوم ب ” جيل Z212″ الكثير من الأسئلة والكثير من الإشكاليات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية، كما تخلق أزمة حقيقية مؤسساتية واجتماعية وأمنية بمداخل معالجة وتحليل متنوعة ومقاربات متعددة تتراوح بين المقاربة السوسيو- اقتصادية والسيكولوجية و الدستورية، بل ويمكن طرح فرضيات تجاوز مسببات الأزمة للمجال الداخلي وإمكان إفتراض وجود أيادي خارجية من منظور نظرية المؤامرة، خاصة مع حقيقة التدفقات السبيرانية العابرة للحدود، والتي صارت تؤرق بال الدول وتهدد أمنها الداخلي بالإنهيار، باعتبار أن المنطلق الأساسي وراء مظاهرات “جيل Z “كان هو المجال الإفتراضي وصفحات الويب وحسابات الدردشة في المنصات الرقمية قبل أن تتحول إلى المجال الواقعي الذي هو الشارع، هذه الأزمة تطرح على الدولة رهانات جديدة ماثلة تتطلب التحلي بالواقعية والوضوح والشجاعة السياسية من أجل معالجتها ، كما تتطلب مباشرة إجراءات ميدانية ملموسة لإقناع هؤلاء الشباب بجدية الدولة والحكومة في الإستجابة لمطالبهم، فكيف تبلورت مطالب “جيل Z ” ؟ وأين يكمن أصل المشكل؟ وما علاقة المظاهرات بمشكل الصحة والتعليم؟ وما هي المداخل السياسية والاقتصادية والإجرائية لمعالجة الأزمة بالنسبة للحكومة و للدولة على حد سواء؟

ظهور حركة شباب “GEN Z 212 “

إن ظهور حركة شباب Z في المغرب بشكل مفاجئ مبني على أمرين أو سببين، الأول ذاتي مرتبط بالاحتقان الاجتماعي الناتج عن غياب العدالة الاجتماعية والمجالية، والذي تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على تعميقه في أوساط الشباب خاصة، والثاني موضوعي مرتبط بما حدث في النيبال مؤخرا بحيث استلهم شباب جيل Z 212 المغاربة حراكهم من الأحداث التي حدثت في هذا البلد والتي أدت إلى إسقاط الحكومة.
فيما يخص السبب الأول فهو ذاتي مرتبط بالأوضاع الإجتماعية الداخلية للمغرب، والتي تعرف تدنيا ملحوظا في الأرقام والمؤشرات المتعلقة بها، وهذه التراكمات السلبية هي بطبيعة الحال بمثابة الوقود الذي كان من المنتظر أو المرتقب أن يفجر الوضع في أية لحظة، فمؤشرات البطالة المرتفعة في أوساط الشباب، وخاصة من خريجي الجامعات والمعاهد في الوسط الحضري، وغياب العدالة المجالية في القرى وافتقارها للخدمات الاجتماعية وخدمات القرب، وتغول القطاع الخاص في التعليم والصحة، كانت كلها من العوامل المباشرة التي ساعدت على خروج الشباب إلى الشارع، لكن السياق الذي أدى إلى الإحتجاجات والفوضى والعنف والتخريب، نابع من التحريض والتهييج الذي يعتمل داخل العالم الإفتراضي وفي قاعات الدردشة الإفتراضية وخاصة على تطبيق ” ديسكورد – Descord ” فهذا التطبيق بما صار يتيحه من امكانيات التحشيد والمناقشة والدردشة والدعوة إلى التظاهر والإحتجاج بعيدا عن مراقبة السلطات، كان له دور بارز في تأجيج الأوضاع وانحرافها نحو ما شهدناه من عنف وفوضى وتخريب.

و قد تسعفنا المقاربة السيكولوجية في فهم بعض جوانب المشكلة الإجتماعية التي أدت بالشباب إلى الخروج إلى الشارع على ذلك الشكل الإنفعالي الغاضب الذي أدى إلى الفوضى و العنف والتخريب، ومن هذا المنطلق يذهب مصطفى حجازي في كتابه الموسوم ب ” التخلف الاجتماعي – مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ، إلى أن الإنسان المقهور يقوم بتصريف التسلط والقهر الذي يفرض عليه تجاه الدولة والمجتمع – وعدم الإحساس بالسيطرة على مصيره وغده وانعدام الضمانات التي تشعره بالأمان و الثقة و بالإطمئنان – إلى أفعال عنيفة وعدوانية بل وإجرامية في بعض الأحيان، لذلك فالإنسان المقهور يعاني من درجة الإنفعال عالية بشكل غير طبيعي، مما يجر ردود أفعال متطرفة وذات طابع اٍنفعالي خال من العقلانية والتقدير الموضوعي للواقع، ومع التوتر تزداد العدوانية المتراكمة المقموعة وتصل درجة الاٍنفجار.

وبالنسبة للشباب الذي خرج للشارع في المغرب يومي 27 و28 من أكتوبر الجاري، فيمكن تقسيمهم إلى فئتين؛ الفئة الأولى هي التي خرجت للتظاهر بشكل سلمي في اليوم الأول، ورفعت شعارات المطالبة بإصلاح التعليم والصحة والعدالة الإجتماعية ومحاربة الفساد، وهذه الفئة نالت قسطا من التعليم في المدارس والجامعات سواء العمومية أو الخصوصية ولديها نصيب من الوعي والانضباط و هي تقطن في الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش وأكادير، والفئة الثانية هي التي خرجت في الأيام الموالية من أجل ممارسة أعمال التخريب والهجوم على الإدارات العمومية و مقرات الأمن والممتلكات العامة والخاصة، وهذه الفئة ليست لديها مطالب محددة وتتكون في الغالب من القاصرين ، وهذه الفئة هي التي تقطن هوامش المدن الصغيرة وفي القرى المحيطة بالمراكز الحضرية، وهي في الغالب متدنية مستويات التعليم، وليست لديها أية آفاق مستقبلية فيما يخص الإدماج الإجتماعي في سوق الشغل باعتبار كونها لا تتوفر على أية مؤهلات مهنية أو علمية مما جعلها عرضة للضياع والشعور بالحكرة وعدم الإطمئنان على المستقبل، وهذه الفئة تعيش هشاشة اجتماعية ونفسية وتتغذى من الأفكار التي ينشرها المؤثرون في وسائل التواصل الإجتماعي؛ خاصة منهم القاطنين بديار المهجر، حول مدى تغول الفساد الذي ينهش جسد المجتمع في جميع المجالات الإدارية والإقتصادية والسياسية والأمنية، ويتم شحن نفوسها بالحقد والغيظ على الدولة والمجتمع والطبقة السياسية والإدارية والأمنية الحاكمة.

وكون هذه الفئة تعيش أوضاعا اجتماعية مزرية جدا راجع إلى عدم توفر أية مرافق للإدماج الإجتماعي في الوسط القروي مثل دور الشباب وملاعب كرة القدم ودور متعددة الإختصاصات ومراكز التكوين المهني الزراعي والحرفي والتقني، بإمكانها استيعاب الطاقة التي يتوفرون عليها وتحويلها إلى مكاسب اجتماعية وقيمة مضافة تعود عليهم بالنفع وعلى المجتمع، وقلة قليلة من الجماعات الترابية هي التي تتوفر على ملاعب القرب، في حين فإن الشباب في الجماعات الواقعة في المناطق الجبلية يقومون بإنشاء ملاعب لكرة القدم بإمكانياتهم البدائية إما في الحقول الزراعية أو وسط الهضاب العالية أو في الأودية، لهذا يتعين على الدولة والجماعات الترابية والمجتمع المدني، التفكير مليا في سبل إدماج هؤلاء الشباب واحتضانهم وتأمين مستقبلهم وانتشالهم من الفراغ القاتل والذي يستغله المؤثرون الباحثون عن حصد المشاهدات من أجل الشهرة والمال في المواقع الرقمية.

المقاربة السوسيو- اقتصادية

لابد من التذكير على أن موضوع مطالب الشباب حول الإختلالات التي تعرفها منظومتي التعليم والصحة والعدالة الإجتماعية والمجالية ببلادنا كانت في الواقع موضوع خطابات ملكية عديدة وكذلك موضوع تقارير مؤسسات الحكامة الوطنية وهيئات النزاهة والوقاية من الرشوة، وعل هذا الأساس فالخطابات الملكية وكذا تقارير مؤسسات الحكامة والنزاهة موجهة بالأساس إلى صانعي القرار، سواء على المستوى المركزي وهم الحكومة بشكل جماعي أو الوزراء كمدبرين للقطاعات الوزارية، أو على المستوى المحلي والترابي، وهؤلاء يتكونون من المدبرين العموميين والإداريين التابعين للدولة وكذا من المنتخبين، كما أن المجتمع بكل أطيافه وطبقاته واع بتلك الإختلالات، و لهذا فالشباب لم يكتشفوا شيئا جديدا ولم يبتكروا شيئا لم يسبقهم إليه أحد، إنما ماقاموا به هو كونهم ضغطوا على الجرح بقوة، وبالتالي أيقظوا الوعي الجماعي الذي كان نائما ولم يكن مستعدا لإيجاد حلول ملموسة للإشكاليات المطروحة.

لهذا فتضافر عوامل عديدة سياسية واجتماعية واقتصادية، جعلت من الصعب معالجة هذه الإختلالات بشكل جذري، وحيال عدم قدرة الدولة على مجاراة الطلب الإجتماعي المتزايد، بالنظر إلى محدودية الخيارات السياسية لديها أمام واقع هيمنة النيوليبرالية والإطار المرجعي المعولم على السياسات العمومية الوطنية بالإضافة إلى تحالف أصحاب الرأسمال على المستوى الوطني مع قوى السوق، هذه العوامل كلها أدت إلى تأجيل الحسم في المسألة الإجتماعية، بالرغم من كون المغرب كان دائما يضعها ضمن الأولويات، لكن ضيق الخيارات وعدم قدرة الدولة والأحزاب على بلورة أفكار وتصورات جديدة بإمكانها تجاوز أو حلحلة الضغط الذي أضحى يمارسه المجتمع سواء على المستوى الإجتماعي، الشئ الذي أدى إلى بروز مشكل التعليم والصحة والتشغيل على السطح بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار، وقد ساهم تراجع ثقة المواطن في الخيارات والبرامج التي تتبناها الدولة من أجل معالجة المشكلة الإجتماعية المتفاقمة وبالأخص برنامج التنمية البشرية وبرنامج فرصة والدعم الإجتماعي، في تفاقم السخط وعدم الرضى على السياسات العمومية المتبعة، الشئ الذي أفرغ السياسة من دورها في استيعاب التناقضات المجتمعية ومعالجة الظواهر الإجتماعية، وأمام واقع ضعف الأحزاب السياسية وغيابها عن المشهد العام وعدم قيامها بدورها التأطيري واستيعابها للشباب، وعدم تواجدها في الواقع اليومي المعاش للمواطن ماعدا في أيام الحملات الإنتخابية، وأمام حقيقة انسحاب الأسرة والمسجد والإعلام والمجتمع المدني من أدوارها التربوية والتأطيرية، وانتشار السلوكيات الإنتهازية التي أدت إلى إفساد العملية السياسية وتهميش دور المجتمع المدني وعدم توفره على الإمكانيات المالية اللازمة، وأمام مشاهد الإثراء غير المشروع التي صارت تظهر على بعض السياسيين، ما أدى إل فقدان الثقة في السياسة والسياسيين أو ما بات يطلق عليه البعض ” تجريف السياسة ” أصبح المواطن بشكل عام والشباب بشكل خاص بعيدين جدا عن التفاعل الإيجابي مع المبادرات التي تقوم بها الدولة وبالأخص في المجال الإجتماعي.

المقاربة الدستورية للأزمة

تفترض المقاربة القانونية والدستورية أن هناك حقوقا يضمنها الدستور والقانون، وبموجب ذلك فالفصل 29 من الدستور يكفل حرية الإجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، لكن المشرع الدستوري قيد هذه الحقوق بضرورة ممارستها بروح المسؤولية والمواطنة، وذلك وفق منطوق الفصل 37 منه، وإيراد مفهومي المسؤولية والمواطنة ليس اعتباطا، بل إن المسؤولية تفترض الإنضباط للقانون وترتب جزاء على مخالفة هذه الضوابط، والمواطنة تقتضي ممارسة الحقوق والقيام بالواجبات، ومن ضمن هذه الواجبات ضرورة الإلتزام بالقوانين والدستور، واحترام حقوق الآخرين والمساهمة في تنمية المجتمع وتعزيز قيم التسامح والتعاون، من هذا المنظور يمكن القول أن المظاهرات التي خرجت في اليوم الأول كانت سلمية وبالتالي يمكن القول على أنها كانت منضبطة لما تم التطرق إلي أعلاه، وقد تكون المقاربة الأمنية التي منعت بموجبها هذه المظاهرات غير مطابقة للدستور بالرغم من كوننا لا نعلم ماهي المعطيات الأمنية التي توفرت للأجهزة الأمنية التي على أساسها ثم اتخاذ قرار منع هذه المظاهرات، أما من زاوية أخرى فمداخل المعالجة الأمنية قد أثبتت فشلها في عدة أزمات مماثلة وبالتالي على الدولة العدول عنها واستبدالها بمقاربات أخرى أكثر مرونة والتي تتطلب إعمال روح الإنصات والحوار خاصة مع بعض الشباب واليافعين المندفعين والعاطفيين.

يعلق الكثيرون مشكل الأزمة الخانقة التي أدت بالشباب إلى الخروج للتظاهر في الشارع العام على مشجب الحكومة الحالية، وهي بالفعل تتحمل جزءا من المسؤولية فيما يجري، خاصة أمام حقيقة ارتفاع الأسعار التي تلهب جيوب المواطنين، وغياب بدائل حقيقية بإمكانها إعادة الثقة في المؤسسات، ومع أن أغلب المؤشرات الإقتصادية والإجتماعية تبين على أن الحكومة تتماهى مع أصحاب الرأسمال وقوى السوق، وبالتالي فقدت رصيدها الشعبي بشكل شامل، ما جعلهم يطالبون بإسقاطها أو استقالتها، غير أن الأزمة لديها أبعادا سياسية متعددة متشابكة، منها ماهو عائد إلى فساد المنظومة الأخلاقية في المجتمع، ومنها ماهو عائد إلى الإشكاليات القانونية والدستورية، ومنها ماهو عائد إلى ضيق هامش المبادرة لدى الحكومة في صنع وتدبير السياسات العمومية على مستوى الماكرو- اقتصادي والذي تتحكم فيه قوى السوق النيوليرالية.

وعلى هذا الأساس فمطلب استقالة الحكومة لن يحل المشكلة بل سيزيد من تعقيدها، خاصة ونحن على أبواب الإنتخابات التشريعية؛ ومع أن الدستور المعدل سنة 2011 لا يمنح للملك صلاحية إقالة الحكومة، ماعدا في حالة استقالتها الطوعية، إما بمبادرة من رئيس الحكومة أو بشكل تضامني، فإن استقالتها هي بمحض إرادتها سوف يعيدنا إلى المربع الأول، وهو الذهاب إلى انتخابات مبكرة والتي سوف تفرز نفس الخارطة السياسية المرفوضة، وذلك بحكم هيمنة الأحزاب التاريخية الكبرى على المشهد السياسي، وفساد همم الناخبين وسعي العديد من المترشحين في الأحزاب السياسية إلى الحصول على الريع الإنتخابي والسياسي من العملية الإنتخابية برمتها، لهذا فالحل يكمن في التزام الحكومة أمام الملك والبرلمان، باتخاذ اٍجراءات اِستعجالية لتلبية مطالب الشباب، وإنشاء مؤسسة خاصة يكمن دورها في التفكير في إمكانيات إدماج الشباب في المجالات الإجتماعية وفي سوق الشغل.