وجهة نظر

من “سيدي مومن” إلى “الهراويين”: الأحياء التي تصرخ ضد الصورة النمطية

لم تعد الأسماء الجغرافية للمناطق الحضرية مجرد عناوين لتحديد المواقع، بل تحولت في المدن الكبرى، وعلى رأسها الدار البيضاء، إلى رموز اجتماعية محمّلة بدلالات طبقية وثقافية عميقة تؤثر بشكل مباشر على حياة السكان. فحين يُذكر اسم منطقة مثل “الهراويين” “دوار التقلية” “الشيشان “أو “سيدي مومن”، لا يتبادر إلى الذهن موقعها الجغرافي بقدر ما تُستحضر معها صور نمطية عن الفقر، العنف، والأمية، وكأن سكانها وُسموا بلعنة اجتماعية تسبق أسماءهم وسلوكهم، وتلاحقهم في المدارس وسوق الشغل وحتى في نظرة الدولة إليهم.

في “الهراويين”، مثلا، لا يُنظر إلى العنوان كإشارة مكانية بل كحكم مسبق. أرباب العمل، المؤسسات، وحتى الجيران الجدد، كثيرا ما يتعاملون مع ساكني هذه الأحياء بحذر أو تمييز خفي، وكأنهم ينتمون إلى طبقة غير مرغوبة. الأمر نفسه ينطبق على شباب “سيدي مومن” الذين، رغم التحولات العمرانية التي شهدتها منطقتهم بعد أحداث 16 ماي 2003، ما زالوا يُواجهون نظرة الشك والريبة كلما ذُكر اسم حيهم، وكأنهم أسرى تاريخ لم يصنعوه.

هذا الوصم الاجتماعي لا يقتصر على البعد الفردي، بل يتعداه إلى تعطيل إمكانيات التنمية المحلية. فالمستثمرون غالبًا ما يتجنبون الأحياء ذات السمعة السلبية، والبنوك والمؤسسات المالية تحجم عن تمويل المشاريع فيها بدعوى ارتفاع المخاطر. والنتيجة واحدة: مناطق تُركت خارج دورة النمو الاقتصادي، وسكان يعيشون شعور دائم بالإقصاء والتهميش، مما يخلق أرضية خصبة للغضب الاجتماعي المتراكم.

في تقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2024، تبيّن أن الفقر متعدّد الأبعاد ما زال يطال حوالي 3 ملايين مغربي، تتركز النسبة الكبرى منهم في الأحياء الحضرية الهامشية داخل المدن الكبرى، وعلى رأسها الدار البيضاء. ورغم الجهود المبذولة، فإن جهة الدار البيضاء – سطات سجّلت تراجعًا طفيفًا في مؤشرات الفقر مقارنة بجهات أخرى (حوالي 2.4 نقطة مئوية فقط)، وهو ما يعكس استمرار الهوّة بين الأحياء الراقية وتلك التي تحمل صيت اجتماعي سلبي. في هذه الأحياء، تتقاطع هشاشة الخدمات مع ضعف البنية التحتية ليُنتج واقع من الإقصاء المجالي والاجتماعي.

أما على مستوى الصحة، فقد فجّرت أحداث مؤسفة مثل وفاة ثماني نساء بعد عمليات قيصرية بمستشفى الحسن الثاني بأكادير موجة من الغضب الشعبي، واعتُبرت مؤشّرًا على التدهور الخطير في المنظومة الصحية العمومية. نقص التجهيزات، قلة الأطر الطبية، وضعف المراقبة داخل المستشفيات العمومية هي ملامح وضعٍ بات مألوفًا، خصوصًا في الأحياء والمناطق الشعبية. هذه الوقائع دفعت الآلاف من شباب “جيل زِد” إلى الخروج في احتجاجات واسعة، رافعين شعارات تُطالب بإصلاح التعليم والصحة بدل الاستثمار في مشاريع ترفٍ لا تهم المواطن البسيط.

في قطاع التعليم، تكشف الأرقام الأخيرة أن 45٪ من الأقسام الدراسية في المدن الكبرى تعرف اكتظاظا يفوق الطاقة الاستيعابية الموصى بها، وأن حوالي 30٪ من التلاميذ في الأحياء الفقيرة معرّضون للتسرّب المدرسي. في الهراويين وسيدي مومن ومناطق هامشية اخرى، يتكرر المشهد نفسه: مدارس مهترئة، أقسام مكتظة، وموارد بشرية محدودة. هذا الضعف البنيوي لا يفرز فقط تراجعًا في جودة التعليم، بل يخلق أيضًا شعورا باللاجدوى لدى الشباب، فيدفعهم إلى الشارع بحثًا عن اعتراف وعدالة رمزية تعوّض غياب الفرص.

وما يزيد الوضع تعقيدًا أن البطالة في صفوف الشباب بلغت حسب التقارير الرسمية الأخيرة حوالي 37.7٪، وهي نسبة مرشّحة للارتفاع في الأحياء الشعبية الكبرى. ومع استمرار الدولة في توجيه جزء مهم من ميزانيتها نحو المشاريع الكبرى استعدادا لكأس العالم 2030، يشعر جيل كامل بأنه مُستبعَد من أولويات التنمية. فكيف يمكن أن يقتنع شاب من “سيدي مومن” أو “الهراويين” بالحديث عن “المغرب الجديد” وهو يعيش في مدرسة بلا سقف، ومستشفى بلا طبيب، وحيّ يُنظر إليه كمصدر خطر لا كمجال حياة؟

هذا الإقصاء البنيوي والرمزي معا جعل الأسماء الحضرية تتحول إلى أدوات لتكريس التفرقة بدل تجاوزها. فبينما تُستثمر ملايين الدراهم في تسويق صورة المدن الكبرى كوجهات سياحية واستثمارية، تبقى الأحياء الهامشية شاهدة على فشل السياسات الحضرية في إدماج مواطنيها. الوصم المكاني بات أحد أشكال العنف الرمزي الأكثر حضورًا في الحياة اليومية، وهو ما يغذي مشاعر الغضب والاحتجاج لدى جيلٍ جديد يرى في المساواة داخل المدينة أول خطوة نحو العدالة الاجتماعية.

ومع تزايد الحركات الاحتجاجية في المدن، بات واضحا أن المشكل لم يعد يتعلق فقط بالفقر أو البطالة، بل بعدم المساواة في الكرامة المجالية. تغيير أسماء الأحياء لن يحل الأزمة ما لم يُرافقه تغيير حقيقي في نظرة الدولة والمجتمع إليهم، عبر تحسين الخدمات، وتوسيع الفرص، وإعادة الثقة بين المواطن ومؤسساته. فإعادة تسمية “الهراويين” أو “سيدي مومن” قد تكون بداية رمزية، لكنها لن تحمل معنى إن لم ترتبط بتحسين فعلي في جودة التعليم والصحة والبنية الاجتماعية.

في النهاية، تُثبت احتجاجات الجيل الجديد أن المغرب يعيش لحظة مفصلية في علاقته بالمجال والهوية. الأسماء لم تعد مجرد علامات جغرافية، بل أصبحت مرآة لعدالة غائبة أو حاضرة. فحين يتحرّك الشباب من أحياءٍ موصومة ليطالبوا بالمساواة، فهم لا يحتجون فقط ضد التهميش، بل يطالبون بحقهم في الاعتراف. إن إعادة الاعتبار لهذه المناطق ليست مجرّد إصلاحٍ عمراني، بل مشروع مجتمعي يعيد تعريف المواطنة من جديد على أساس المساواة في الكرامة والفرص، لا في الأسماء والعناوين.