منتدى العمق

مدرسة الريادة… بلا ماء ولا مراحيض!

من الواضح أن المغرب قرر أخيرًا وبعد طول انتظار، أن يعلن منافسته للدول الإسكندنافية… ولكن بطريقته الخاصة، من خلال استحضار الاستثناء المغربي دائما. ففي الوقت الذي تسارع فيه هذه الدول لتبني مدارس ذكية مزوّدة بالمختبرات والروبوتات، ها نحن نحتفي — بكل فخر — بمدارس “الريادة” التي لا تتوفر حتى على حنفية ماء! ( الروبيني)…

هذا وزير التجهيز والماء، جزاه الله على الصراحة النادرة، يكشف مرة أخرى، كما كشف من قبل صفقة خروف العيد، وعلى الهواء مباشرة أن 5000 مدرسة مغربية غير مرتبطة بشبكة الماء. أي أن آلاف الأطفال يقضون يومهم الدراسي كما خُلقوا: بلا ماء، بلا مرحاض، بلا كرامة. ست ساعات متواصلة، بحكم التوقيت المستمر في الوسط القروي، بين الجفاف والعرق، قبل أن يعودوا إلى بيوتهم بعد أن يكونوا قد درسوا نظريًا درسًا في “النظافة” و”الصحة المدرسية”!

وبالموازاة مع ذلك، يخرج علينا وزير آخر — بربطة عنق لامعة وابتسامة من نوع “ريادة 4.0” — ليبشّرنا بأن الدول المتقدمة تحسدنا على تجربتنا التعليمية، وأن “مدرسة الريادة” ستجعل من كل تلميذ مغربي مشروع نابغة. طبعًا طبعًا على نغمات كاظم الساهر… نابغة في الصبر على العطش، وفي ضبط المثانة إلى حين انتهاء الحصة السادسة!

أي ريادة هذه يا سادة؟هل الريادة أن يحفظ التلميذ جدول الضرب على معدة فارغة؟ خصوصا إذا استحضرنا معضلة لاتقل كارثية، وهي الإطعام المدرسي…

أم أن يتعلم “البرمجة” في قسم من الطين بمساحة بيت دجاج؟ دون أن ننسى خيام الزلزال

أم أن “الذكاء الاصطناعي” المقصود هو قدرة المدرّس على تدبير القسم دون ماء ولا مرحاض ولا إنارة؟

في المغرب، الريادة شعار جميل… لكنه يعيش في المكاتب المكيفة لا في المدارس النائية.
في المغرب، الدولة الاجتماعية ترفع شعار “العدالة المجالية”، لكنها ما زالت تتعامل مع القرى وكأنها كواكب بعيدة، لا تختصر المسافة إليها إلا في موسم واحد… راكم عارفينو

في المغرب، الوزراء يتحدثون بلغة المستقبل، بينما التلاميذ يعيشون في ماضٍ لم يكن ليقبله حتى جدّ الوزير.. رحم الله امبارك أولعربي ( nba).

ومع كل ذلك، لا تخلو الخطب الرسمية من حديث عن “المدرسة المواطنة”، و”النموذج التنموي”، و”الجيل الرقمي”. نعم، الجيل الرقمي… لكن بدون ماء، بدون مراحيض، وبدون مستقبل…

وكأننا في فيلم Demolition Man للممثل Sylvester Stallone، حيث يقضي البشر كل حاجاتهم البيولوجية في عالم موازٍ.

فأي ريادة هذه التي تبنى على العطش؟

وأي تنمية هذه التي تبدأ من القسم وتنتهي في الخرافة؟

المشكل ليس في غياب الماء فقط…

بل في غياب الحياء.

لكن يبدو أن المسؤولين عندنا يتقنون لعبة “التزيين بالكلمات”، أكثر مما يتقنون إصلاح الحفر في الواقع. فحين تسألهم عن المدارس بلا ماء، يجيبونك عن “التحول الرقمي”! وحين تشير إلى أقسام بدون مرافق صحية، يحدثونك عن “الحكامة” و”الابتكار”! وكأنهم يعيشون في “ميتافيرس” حكومي موازٍ لا صلة له بما يقع تحت الشمس الحارقة في جبال الأطلس أو في سهول دكالة.

الوزراء عندنا يتحدثون عن المدرسة كما يتحدث مخرج سينمائي عن فيلم لم يصوّره بعد، وكل ما عنده هو السيناريو المثالي. أما الواقع، فهو فيلم من نوع آخر: دراما واقعية بلا مؤثرات خاصة… ولا حتى مرحاض خلف الكواليس!

إنهم يريدوننا أن نصفق لريادة من ورق، وأن نحمد الله على “دولة اجتماعية” لا تصل مياهها إلى المدارس، ولا عدالتها إلى القرى، ولا حياءها إلى التصريحات الرسمية. يريدون أن نقتنع أن الفقر اختيار، وأن العطش نوع من الوطنية، وأن الصبر على الحرمان فضيلة من فضائل “النموذج التنموي الجديد”.

لكن الحقيقة المرة أن أطفال المغرب اليوم لا يريدون “ريادة” في الخطابات، بل يريدون صنبور ماء نقيّ، ومرحاضا نظيفا، وكرامة لا تُهان كل صباح.

يريدون أن يتعلموا في مدارس تُشبه المستقبل لا الماضي.

يريدون دولة لا تتغنّى بالاجتماعية، بل تجسدها بالملموس.

حتى ذلك الحين، سيظل تلميذ الجبل يحمل قنينة ماء في محفظته أكثر نفعًا من المقررات الجديدة، وسيظل شعارنا الحقيقي:

“مدرسة بلا ماء… تربية على الجفاف!”