وجهة نظر

في العمق : الرؤية الملكية الاستباقية لاحتجاجات شباب جيل زيد

منذ لحظة تعيين حكومة عزيز أخنوش في صيغتها الثانية سنة 2024، بدأت تتبلور ملامح رؤية ملكية استباقية اتجاه مستقبل المشهد السياسي والاجتماعي بالمغرب، فقد حملت الصورة الرسمية لتلك اللحظة دلالات رمزية غير مسبوقة أعادت تعريف العلاقة بين المؤسسة الملكية والحكومة، وبين الثابت والمتحول في البنية السياسية للدولة.

غياب ولي العهد عن بروتوكول التعيين لم يكن حدثا عابرا في ميزان البروتوكول الملكي، وإنما موقفا بصريا محسوبا بدقة يوحي بتمييز مقصود بين استمرارية الدولة ممثلة في الملك وبين الطبيعة المؤقتة للحكومات مهما بلغ وزنها السياسي. فهذا الغياب كان إعلانا ضمنيا بأن الإجماع الرمزي المحيط عادة بلحظة التعيين لم يمنح هذه المرة بنفس الدرجة وأن المؤسسة الملكية اختارت أن تبعث رسالة صريحة مفادها أن الشرعية التنفيذية للحكومة لا تعني تطابقها مع الرؤية الملكية للدولة.

وفي السياق نفسه، اكتسبت الألوان في الصورة الرسمية معنى سياسيا فائق الدقة، فقد اختار الملك بدلة بلون مغاير عن تلك التي ارتداها رئيس الحكومة والوزراء في سابقة بروتوكولية تعبر عن تمايز رمزي بين سلطة الدولة العليا وبين الجهاز التنفيذي، فاللون هنا لم يكن زينة شكلية بقدر ما هو إشارة بصرية تكرس المسافة المؤسساتية بين من يقود الدولة ومن يدبر شؤونها اليومية، ويؤكد أن الملكية ليست طرفا في الأداء الحكومي وإنما سلطة مراقبة ومؤطرة له.

أما تموضع وزير الداخلية إلى جانب الملك في الصورة الرسمي، فقد تجاوز كل القراءات الشكلية ليؤسس لتحول رمزي في هندسة السلطة، فالصورة السياسية من منظور سيميائي لم تعد مجرد توثيق بروتوكولي، ولكن أصبحت نصا بصريا ناطقا تنتج دلالاته من ترتيب الحضور واتجاه النظرات والمسافات بين الفاعلين، فظهور وزير الداخلية إلى جانب الملك لأول مرة مثل إعلانا غير مكتوب عن استعادة الوزارة لموقعها التاريخي كمحور ارتكاز في تفعيل القرار العمومي، وكجهاز تنفيذي مؤتمن على تنزيل الرؤية الملكية في بعدها الميداني، وقد ترجمت الوقائع اللاحقة هذه الرمزية عندما كلفت الوزارة بملفات كبرى: من إعادة تكوين القطيع الوطني، إلى الإشراف على إعداد منظومة الانتخابات، وصولا إلى قيادة إعداد برامج التنمية المندمجة، في تعبير واضح عن انتقال مركز الثقل التنفيذي نحو وزارة الداخلية بوصفها ذراع الدولة الفعال في الميدان.

هذا التمهيد الرمزي والسياسي وجد امتداده المباشر في خطاب العرش ليوم 30 يوليوز 2025، الذي يمكن اعتباره تجسيدا لرؤية الدولة الاستباقية في قراءة تحولات المجتمع، فقد انصرف الخطاب الملكي  قبل أسابيع من اندلاع احتجاجات 27 شتنبر إلى تشخيص أعطاب قطاعي التعليم والصحة بصرامة لافتة، معلنا أن هذين الورشين يمثلان جوهر معركة العدالة الاجتماعية في المغرب الجديد، وأكد كذلك أن المغرب لا يمكن أن يستمر في السير بسرعتين( وللإشارة فقد دأب الملك منذ اعتلائه العرش وفي جميع خطاباته السامية على الإشارة إلى أعطاب الدولة الإقتصادية والاجتماعية والسياسية بوضوح تام وصراحة ثابتة ودون أي مركب نقص)  فكان الخطاب الملكي لعيد العرش بمثابة إنذار مبكر وبيان وإستشراف قوي للمستقبل السياسي والاجتماعي الوطني، إذ أنه التقط نبض الشارع قبل أن يتحول إلى احتجاج وأجاب عن أسئلته قبل أن تطرح علنا.

وقبل أن ترتفع في الشارع شعارات تطالب بإسقاط الحكومة كان الخطاب الملكي لعيد العرش قد قدم بلغة دستورية رصينة الجواب القبلي على هذا المطلب مؤكدا على مبدأ الاستمرارية المؤسساتية ورفض منطق القطيعة السياسية، فقد شدد الملك قائلا: ونحن على بعد سنة تقريبا من إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة، في موعدها الدستوري والقانوني العادي، نؤكد على ضرورة توفير المنظومة العامة المؤطرة لانتخابات مجلس النواب، وأن تكون معتمدة ومعروفة قبل نهاية السنة الحالية.

بهذا التوجيه الحاسم حسمت المؤسسة الملكية مسبقا في طبيعة المرحلة واضعة حدا لأي تأويلات مرتبطة بإمكانية إنهاء التجربة الحكومية قبل أوانها، ومؤكدة أن التداول على السلطة يجب أن يتم في إطاره الدستوري الطبيعي لا تحت ضغط الشارع، نعم إنها رسالة سياسية بليغة مفادها أن الدولة تتعامل مع الأزمات بعقلانية دستورية قانونية لا بانفعالات ظرفية، وأن منطق الإصلاح لا يبنى أبدا على الهدم، ولكن على سيرورة إصلاحية متدرجة وعلى تكريس قواعد الاستقرار السياسي والمؤسساتي.

وعندما تفجرت احتجاجات شتنبر لم تأت لتناقض الخطاب الملكي بل لتؤكده وتشرح مضامينه، فشعارات المحتجين استدعت نفس المفردات التي بنى عليها الخطاب الملكي تشخيصه: التعليم، الصحة، العدالة الاجتماعية، بهذا المعنى لم تكن المؤسسة الملكية تسير خلف الشارع وإنما كانت تسبقه بخطوات فكرية وسياسية وبزمن استباقي يفوق سنة كاملة، مدركة أن معالجة الأعطاب البنيوية شرط وجودي لاستدامة الاستقرار .

وفي العمق، تعكس الرسالة الملكية السامية الموجهة بتاريخ 15 شتنبر 2025 إلى المجلس العلمي الأعلى رؤية ملكية استباقية تعيد وصل الشباب بجوهر الدين في زمن تغزوه الفردانية والأنانية، فالملك بصفته أمير المؤمنين وحامي الملة والدين لم يجعل من إحياء ذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد مناسبة احتفالية وإنما مناسبة تربوية كبرى لإعادة تعريف دين التوحيد كمنظومة عقدية تنقذ الإنسان من عبودية الأنا وتؤسس لأخلاق المشاركة والتكافل، فلقد دعا جلالته العلماء إلى اعتماد خطاب تواصلي يناسب العصر ويمس عقول الشباب، إدراكا منه أن الفجوة بين الأجيال أصبحت فكرية قبل كونها اجتماعية، ومن هنا جاء التوجيه الملكي نحو تجديد وسائل الدعوة والتبليغ عبر الإعلام الرصين والفضاءات العامة والجامعات بما يرسخ النموذج المغربي الوسطي.

وبعد مرور أيام قليلة على صدور الرسالة الملكية السامية جاءت احتجاجات “جيل زيد” يوم 27 شتنبر 2025 لتكشف عمق البصيرة الملكية واستباقها لما كان يعتمل في الواقع الاجتماعي، فقد أظهرت تلك الأحداث أن ما حذر منه جلالته ضمنيا قد بدأ يتجسد ميدانيا، بأفكار وإيديولوجيات هدامة تسللت إلى عقول الشباب تحت غطاء مطالب اجتماعية مشروعة، لتحرف مسار التعبير السلمي نحو العنف والفوضى والسرقات، في مشهد عرى هشاشة الوعي الجمعي وخطورة الفراغ الروحي.

لقد بدت الرسالة الملكية في ضوء ما جرى وثيقة إنذار مبكر تسبق الحدث وتقرأ المستقبل بعين المصلح، إذ لم تكن الدعوة إلى تربية الأجيال على التوحيد والتحرر من الأنانية دعوة وعظية فحسب، وإنما مشروعا وقائيا لبناء مناعة فكرية وروحية تقي الشباب من الانجراف وراء موجات العدمية والتيه، وهكذا يتأكد أن الملك استبق بالعقل ما انفجر لاحقا بالعاطفة، ليضع من خلال رؤيته التوحيدية المتنورة الأساس الحقيقي للأمن الروحي والاجتماعي في المغرب.

إن التتبع الكرونولوجي للأحداث يبين أن خطاب العرش كان جزءا من رؤية استراتيجية متكاملة بدأت ملامحها منذ  أكتوبر 2024، حين أعيد تشكيل المشهد التنفيذي على ضوء توازنات جديدة، لذلك يصبح من غير الدقيق النظر إلى خطاب افتتاح السنة التشريعية الجديدة كنتاج لحراك اجتماعي لاحق،  ولكن يجب قراءته كوثيقة استباقية صاغت – بوعي مؤسساتي عميق- أجوبة الدولة قبل أن تتكون الأسئلة في الشارع.

هكذا تتقاطع ثلاث لحظات تأسيسية – صورة التعيين، خطاب العرش، واحتجاجات شتنبر- لتشكل خريطة واحدة لمسار الدولة في زمن الإستهدافات: ملكية بصيرة تقرأ إشارات الأزمة قبل انفجارها وتعيد ترتيب السلطة التنفيذية لتضمن فعالية القرار ووحدة الدولة، وعليه فهذا النسق يؤكد من جديد أن الملكية المغربية هي ضامن استقرار الدولة واستمراريتها، وفاعل استراتيجي يعيد إنتاج التوازنات في لحظات الاحتقان، بما يحول التحديات إلى فرص لتجديد العقد الاجتماعي وصون السلم الاجتماعي.

مع افتتاح السنة التشريعية الجديدة اليوم، تترقب الساحة السياسية والاجتماعية خطابا ملكيا يحمل على الأرجح ملامح مرحلة جديدة من الرؤية الإصلاحية التي دشنها عاهل البلاد منذ اعتلاءه العرش، وفي قراءة مسبقة نرى أن اللحظة التشريعية المقبلة ستكون مخصصة لتفعيل الأجوبة الاستباقية لخطاب العرش في شكل إصلاحات مؤسساتية وتشريعية ملموسة.

من المنتظر أن يضع خطاب اليوم البرلمان والحكومة أمام مسؤولياتهما التاريخية في تحويل الرؤية الملكية إلى برامج تنموية قابلة للتنفيذ، مع الدعوة إلى تجاوز الجمود السياسي الذي طبع أداء النخبة السياسية خلال الفترات السابقة، فالسنة التشريعية المقبلة ستكون اختبارا حقيقيا لقدرة الأحزاب السياسية على الانتقال من الخطابات السياسية إلى الفعل الإصلاحي التنموي والتجديد المؤسساتي لمنظومتها الحزبية، بهذا المعنى سيكون خطاب افتتاح السنة التشريعية 2025-2026 بمثابة الجسر بين الرؤية الملكية الاستباقية الواردة في خطاب عيد العرش المجيد ومخرجاتها العملية في السياسات العمومية التي ستعقب خطاب افتتاح السنة التشريعية، وذلك في إطار ترجمة توصيات النموذج التنموي الجديد وإعطاء الشباب الأولوية في البناء الوطني .

مرة أخرى، نرى أن المملكة المغربية تؤكد من خلال قيادتها الرشيدة أنها فعلا نموذجا استثنائيا يحتذى به في استباقية تدبير الأزمات وتحويل التحديات إلى فرص إصلاحية بنيوية وتنموية، لترسخ هذا النموذج الإستثنائي التي كرسته في أعقاب أحداث الربيع العربي لسنة 2011، وتثبت مجددا أنها لا تقتصر على مواجهة الاستهدافات الخارجية أو الداخلية فحسب، ولكن تعيد تشكيلها بذكاء سياسي ورؤية استراتيجية إلى فرص لترسيخ التماسك الاجتماعي وتعزيز التلاحم الوطني، مستندة بثقة وطمأنينة إلى الرابط المتين بين العرش والشعب.