منتدى العمق

نبيل بنعبد الله.. أوحين تهاجم التجربة لأن صوتها لا يشبه الجوقة

الحملة التي استهدفت في الآونة الأخيرة حزب التقدم والاشتراكية وأمينه العام نبيل بنعبد الله، ليست حدثًا عابرًا في المشهد السياسي المغربي.
وإنما هي جزء من دينامية قديمة جديدة، تُعيد إنتاج نفسها كلما برز صوت مختلف لا يسبّح بحمد الإجماع المصطنع. فمنذ اللحظة الأولى لتداول مقطع الفيديو الشهير، وفي ظرف ساعات، امتلأت المنصات الرقمية بالتعليقات، بعضها محق في استغرابه، لكن أغلبها موجّه ومبرمج لإحداث صدمة، وجرّ النقاش من حيّز النقد المشروع إلى مساحة التشهير والتخوين.
هكذا تحوّل حدث داخلي محدود في سياق تنظيمي خاص إلى ما يشبه محكمة مفتوحة، أُخرجت فيها عبارات من سياقها، واستُعملت لإطلاق النار على الحزب ورجالاته.

كل متابع يعرف أن اللقاء الذي أُخذ منه المقطع لم يكن خطابًا عامًا، بل اجتماعًا داخليًا تنظيميًا. في مثل هذه اللقاءات، تُقال أحيانًا عبارات تُفهم في سياقها التحفيزي، ولا يُقاس بها الموقف السياسي العام.
لكن خصوم الحزب التقطوا الجزء المثير فقط، وعزلوا الكلمة من سياقها الزمني والمكاني، لتتحول إلى أداة هجومية تُضخ عبر الصفحات والمواقع، كما لو أن الأمين العام وجّه شتيمة إلى الشعب المغربي بأكمله.
منذ البداية، كان الهدف هو تحويل النقاش من المستوى السياسي إلى الأخلاقي، ومن الخلاف في المواقف إلى معركة في السمعة.
ومع ذلك، ظل الحزب متماسكًا، أصدر بياناته، شرح السياق، وتفاعل بشجاعة مع الرأي العام دون أن يسقط في ردود الفعل الانفعالية.
وربما ما يزعج بعض خصوم نبيل بنعبد الله هو هذا التوازن تحديدًا:
قدرة الحزب على البقاء في المعارضة دون أن يتحول إلى عدو للدولة،
وقدرة أمينه العام على توجيه النقد دون أن يتنكر للمؤسسات.
إنه خط سياسي دقيق، قلّ من يجيد المشي عليه في المشهد الحزبي الحالي.

من يهاجم نبيل بنعبد الله اليوم، يتناسى أن حزب التقدم والاشتراكية ليس وليد الأمس.
هو امتداد لتجربة اليسار الوطني الذي حمل مشعل المقاومة والتحرير، ودافع عن الخيار الديمقراطي عندما كان ذلك ثمنه باهظ .
منذ أيام علي يعته، لم يكن هذا الحزب مجرد تنظيم انتخابي، ولكنه مدرسة فكرية وسياسية.
مدرسة تُخرّج أجيالاً من المناضلين الذين يؤمنون بأن العمل الحزبي ليس سلّمًا نحو السلطة، هو بالأحرى التزام تجاه الوطن.
نبيل بنعبد الله نفسه ابن هذه المدرسة. دخل العمل السياسي من بوابة الشباب، وتدرج داخل هياكل الحزب حتى وصل إلى قيادته.
وفي زمن هجر فيه كثيرون الأحزاب أو باعوها للمصالح، ظل هو وفياً للمسار ذاته، مؤمنًا بأن السياسة ما زالت ممكنة إن توفرت لها الجرأة والنزاهة.
حين أُعفي من مهامه الحكومية، لم يختبئ خلف الصمت أو الشعور بالمرارة، بل عاد إلى الحزب ليعيد ترتيب صفوفه، وواصل أداء دوره كصوت نقدي داخل المعارضة.
وربما هنا تكمن المفارقة: فالرجل الذي “استُبعد” من الحكومة بقرار سياسي، لم يغادر المشهد، بل عاد أقوى داخل حزبه.
وهذا بالضبط ما يُقلق البعض.

الحزب اليوم لا يزايد على أحد، لكنه أيضًا لا يصمت.
منذ دخوله المعارضة، تبنى خطابًا متزنًا، يوازن بين النقد المسؤول والاقتراح الواقعي،
ويُصرّ على أن المعارضة ليست أبدا “مهنة احتجاج”، وإنما هي وظيفة ديمقراطية تساهم في تصحيح المسار.
لكن في مناخ يغلب عليه الانقسام، تُصبح المواقف العقلانية هي الأكثر استهدافًا، لأنها لا تُرضي “الجوقة” التي تعيش على الضجيج.
نبيل بنعبد الله لم يرفع شعارًا شعبويًا واحدًا، ولم يسعَ إلى ركب موجة الترند، بل ظلّ يتحدث لغة هادئة لكنها مؤلمة في صدقها:
عن أزمة الثقة، عن ضعف الفعل الحزبي، وعن مسؤولية الجميع في بناء نموذج تنموي لا يُقصي أحدًا.

من يتأمل طريقة اشتغال بعض المنصات خلال هذه الأزمة، يلاحظ حجم التنسيق في الزمان واللغة والمصطلحات.
الهجوم ليس عفويًا، هو هجوم منظم: استهداف متزامن لشخص الأمين العام، تشكيك في شرعية الحزب، ونشر مقاطع مفبركة أو مجتزأة.
بل إن بعض الأصوات ذهبت حدّ الدعوة إلى “حلّ الحزب”، وكأننا أمام تنظيم خارج القانون!
لكن الردود التي جاءت من قيادات الحزب ومن عدد من الشخصيات الوطنية والإعلامية، كشفت وعيًا جماعيًا بخطورة هذه الحملات،
وبأن المستهدف الحقيقي ليس نبيل بنعبد الله كشخص، بل فكرة الحزب المستقل، الذي يرفض أن يتحول إلى أداة في يد أحد.

لا يمكن مسح ذاكرة حزب التقدم والاشتراكية بمقطع فيديو، ولا اختصار تجربة نبيل بنعبد الله في لحظة ارتباك لغوي.
التاريخ يحتفظ بما هو أهم: مواقفه في الدفاع عن الديمقراطية، ومساهماته في النقاش الوطني حول النموذج التنموي،
وحضوره الدائم في ملفات العدالة الاجتماعية والمجالية، من السكن إلى الصحة إلى التشغيل.
لقد مرّت عشرات الزلات اللفظية في تاريخ السياسة المغربية، ولم تتحول إلى عواصف.
لكن يبدو أن الحملة ضد نبيل بنعبد الله، كانت تبحث عن أي فتيل لإشعال النار في خصوم الخط المستقل.

السياسة في المغرب تعاني اليوم من تآكل قيمها الأصلية:
صارت تقاس بعدد المشاهدات، لا بعدد المواقف؛
بعدد المتابعين، لا بعدد الأفكار.
وفي هذا المناخ، يصبح من السهل شيطنة أي صوت مختلف، خصوصًا إن كان يذكّر الناس بما فقدوه من المعنى في الممارسة السياسية.
الحزب الذي يهاجم اليوم هو نفسه الذي قدّم عشرات الكفاءات إلى الدولة،
والذي ساهم في بناء جسور بين الفكر اليساري والواقعية المغربية.
لكن لأن نبيل بنعبد الله يرفض الخطاب المعلّب، يُعاقَب على وضوحه.

الحملات تمر، لكن المواقف تبقى.
سيُنسى الفيديو بعد أسابيع، لكن سيبقى السؤال الأكبر:
من المستفيد من تدمير ما تبقى من أحزاب لها ذاكرة وتاريخ وضمير؟
نبيل بنعبد الله ليس ملاكًا، لكنه ليس خصمًا للوطن كما يُراد تقديمه.
هو سياسي ارتكب أخطاءه، لكنه ظل مخلصًا لفكرته، ومؤمنًا بأن السياسة لا تُمارس بركوب الموجات، بل بالصبر والمواقف.
وحزب التقدم والاشتراكية، الذي قاوم سبعة عقود من المنع والتحجيم،
لن تهزه عاصفة رقمية عابرة، لأنه ببساطة…
ما زال الحزب الذي لا يشبه الجوقة.