قناة العيون الجهوية قناة تلفزيونية مغربية جهوية يوجد مقرها بمدينة العيون، وتُعنى بتغطية الأحداث والأنشطة في الأقاليم الجنوبية للمملكة. وباعتباري أحد المتابعين الدائمين لهذه القناة وواحدًا من الغيورين عليها، أدليت مؤخرًا ببعض الملاحظات حول وضعها الإداري والمهني، انطلاقًا من قناعةٍ راسخة بأن النقد البنّاء ليس تشويشًا، بل هو وجه آخر من أوجه الغيرة الصادقة على مؤسسات الوطن.
غير أن تلك الملاحظات أثارت ردود فعل متباينة؛ إذ تلقيت اتصالات عديدة من أصدقاء، ومن انفصاليين، ومن شامتين وغاضبين على حد سواء. بعضهم لامني على “التدخل في شأن لا يعنيني”، وآخرون نصحوني بالابتعاد لأن – على حد تعبيرهم – “هاد المؤسسة متحكّمين فيها ذوك لي مانا ذاكرين”. بينما قلّل آخرون من أهمية الموضوع وأسموها “تلفزة الرحيبة ماشي مهمة”، في حين ختم البعض نصائحهم بعبارة “إيه، عسّك…..لا تنبش عشّ الدبابير”. والحقيقة أن هذه العبارة الأخيرة كانت أكثر ما استفزّني، لأنها تختزل منطق الصمت المريح في مواجهة الفوضى، بينما المطلوب هو الجرأة في قول الحقيقة حين تقتضي المصلحة العامة ذلك.
أن تكون “أعورًا” خير من أن تكون “أعمى”، فالرؤية الناقصة أفضل من انعدامها. وهذا المثل ينطبق تمامًا على واقع قناة العيون الجهوية، التي تبقى رغم كل الملاحظات تجربة إعلامية وطنية رائدة كان لها دور كبير في نقل صورة الأقاليم الجنوبية، والدفاع عن مغربية الصحراء بمهنية ومسؤولية. فمنذ انطلاقتها، استطاعت القناة أن تكون جسرًا للتواصل بين المنطقة وباقي ربوع المملكة وبالبلدان المجاورة، وأن تواكب بمهنية عالية وتفانٍ مختلف الأحداث التنموية والاجتماعية والثقافية، رغم ما واجهته من تحديات وصعوبات وإكراهات في بداياتها.
لقد راكمت القناة رصيدًا مهنيًا معتبرًا بفضل جهود أطُرِها الصحفية والتقنية والإدارية، الذين اشتغلوا كجسم واحد بقيادة واحدة في ظروف مهنية معقدة، ومع ذلك ظلوا ملتزمين برسالة الإعلام المسؤول. فقد كانت القناة، وما زالت، صوتًا صادقًا يعكس نبض الساكنة وقضاياها، ومصدرًا موثوقًا للمعلومة من الميدان، رغم الإكراهات التنظيمية والإدارية التي تحد أحيانًا من فعالية الأداء وتعيق تطور المنتوج الإعلامي الجهوي.
ولا يمكن الحديث عن قناة العيون دون التوقف عند اسمٍ سيبقى راسخًا في الذاكرة، هو المدير الراحل محمد الأغظف الداه، الذي وضع اللبنات الأولى لهذا الصرح الإعلامي الوطني، وأرسى قواعده المهنية من لا شيء. لقد كان رحمه الله نموذجًا للإعلامي المخلص، جمع بين الكفاءة والتواضع، وساهم في جعل القناة مدرسة في العمل الجهوي الهادف، ومرجعًا وطنيًا في التغطية الإعلامية لقضايا الصحراء المغربية. ما قدمه من برامج وتغطيات نوعية سيظل شاهدًا على بصمته الرفيعة ومكانته في ذاكرة الإعلام الوطني.
اليوم، وبعد كل ما تحقق، تبدو القناة في حاجة إلى نَفَس جديد وإرادة واضحة لتصحيح الأخطاء السابقة والاختلالات المهنية والتدبيرية القائمة التي تراكمت بمرور الوقت. فالإمكانات المالية متوفرة، والموارد البشرية موجودة، لكن ما ينقص هو التنظيم الإداري الصارم والرؤية التسييرية الواضحة. إن استمرار الوضع الحالي دون تعيين مدير رسمي يجعل التدبير اليومي خاضعًا لمنطق “التسيير بالنيابة” و “مسك العصا من الوسط”، الذي بات يؤثر بشكل مباشر على جودة الأداء والمردودية العامة للمؤسسة. وبالتالي أصبحت القرارات الحاسمة مؤجلة، والمبادرات محدودة، والمساءلة شبه غائبة. وقد أفرز هذا الواقع جواً من التسيب الإداري غير المقبول في مؤسسة إعلامية يُفترض أن تكون نموذجاً في الانضباط والالتزام، إذ أصبحت العطل الإدارية الطويلة الأمد للبعض هي سيدة الموقف والغيابات المكررة واقعاً مألوفاً، فيما تظل العديد من الكفاءات “مهمشة” أو تعمل بنصف الدوام او عن بعد دون استثمار فعلي لقدراتها المهنية، وهو ما يؤدي إلى نوع من الجمود الذي لا يخدم المؤسسة ولا رسالتها الإعلامية.
وتعمّق هذا الوضع أكثر بسبب ما يمكن وصفه بحالة الانقسام والتشرذم الداخلي، حيث توزع الجميع إلى مجموعات صغيرة متنافسة ومتناحرة، تتحرك أحياناً بدوافع مهنية أو مرتبطة بمعارك عن التعويضات المادية أو الترقيات أو إسناد المسؤوليات، وأحياناً أخرى بخلفيات اجتماعية أو قبلية غير معلنة. هذا التشرذم جعل بيئة العمل داخل القناة متوترة ومتشنجة، وأدى إلى ممارسات الإقصاء والكولسة والاتهامات المتبادلة بين هذه “الجزر الإدارية ” المتباعدة نفسيا والمتعاركة، حتى أصبح السيد المدير بالنيابة نفسه في وضع صعب، يضطر أحياناً لمجاراة إحدى هذه المجموعات ضد أخرى حفاظاً على موقعه وللاحتماء من “قصف” الأطراف الأخرى. إنه وضع غير صحي وغير إداري، أعاق الجهود وأضعف المؤسسة ومس بروحها المهنية، وهو ما حال دون تنفيذ الإصلاحات الضرورية.
لقد أفرز هذا الواقع نوعاً من الجمود التنظيمي الذي انعكس سلبًا على المنتوج الإعلامي الذي يعاني من منافسة شرسة من أصدقائنا بالجمهورية الإسلامية الموريتانية ومن غيرها، فضعفت البرامج، وتراجعت الحيوية، وغابت المهنية في التغطيات الصحفية التي يفترض أن تواكب الأوراش الكبرى بمدينة العيون وجهاتها الثلاث. إن مؤسسة بهذا الوزن لا يمكن أن تُدار بالهاتف أو بالمجاملات أو ” گبيظ لخلاگ”، ولا يمكن أن تظل بلا قيادة رسمية تمتلك سلطة القرار والمحاسبة بما يضمن الانضباط والنجاعة. لذا فإن تعيين المدير الحالي الدكتور عليوة بدا المعروف بحكمته وكفاءته وانضباطه ومستواه الثقافي بصفة رسمية عوض الاستمرار في التسيير بالنيابة الغامض وغير المستقر أو تعيين مدير جديد يتمتع بالكفاءة والاستقلالية أصبح ضرورة ملحّة لا تحتمل التأجيل، لأن ترك الحبل على الغارب في قطاع حساس كالإعلام الجهوي ليس حلاً، بل مخاطرة تمس بمصداقية العمل الإعلامي ودوره في المرحلة الحساسة المقبلة، وهو ما يفتح المجال لإعلام الجيران وإعلام العدو، من التسلل لبيوتات الصحراويين.
قناة العيون الجهوية مطالَبة اليوم وغدا بأن تنفتح أكثر على المجتمع المحلي والجهوي والاقليمي، وأن تقدم برامج مهنية تراعي خصوصيات المنطقة وتواكب التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع إتاحة مساحة أوسع للنقاش العمومي والتواصل الثقافي والتنموي. كما أن الإعلام الجهوي بالصحراء يجب أن يكون في مستوى الرهانات الوطنية الكبرى، خصوصاً ما يتعلق بمشروع الحكم الذاتي وما يستوجب من استعداد إعلامي مواكب لهذا المشروع الوطني الكبير.
إن إصلاح قناة العيون الجهوية اليوم ليس مطلبًا مهنيًا فحسب، بل هو ضرورة وطنية، لأن الإعلام الجهوي في الأقاليم الجنوبية ليس مجرد وسيلة إخبار، بل هو أداة دبلوماسية وتنموية تُسهم في تعزيز الوحدة الوطنية الترابية وترسيخ النموذج المغربي في التدبير الجهوي المتقدم المتمثل في مشروع الحكم الذاتي.
إن ما أطرحه اليوم لا يندرج في خانة التشهير أو تصفية الحسابات، بل هو نابع من غيرة وطنية صادقة على مؤسسة إعلامية نحبها ونجلها ونقدر مسؤوليها وأطرها وصحافييها ونريدها أن تكون في مستوى رهانات المرحلة الحساسة المقبلة. فالنقد غايته الإصلاح، والمصارحة طريق لتقويم الاعوجاج، لأن إعلامًا قويًا وشفافًا هو سندٌ للتنمية ودرعٌ من دروع الدفاع عن الوطن وقضاياه العادلة.
عبدالقادر الحافظ بريهما