وجهة نظر

بلد أنهكته الحروب وتنازعت جسده الأوبئة.. السودان ينتظر وطنه المفقود

سعال يملأ أروقة المركز الصحي، وأنين مستمر، ومرضى بدون أسرّة يفترشون أرضية المركز، وأمهات يحملن صغارا أنهشهم المرض وسوء التغذية.

حالات أمراض، وأوبئة مختلفة، اجتمعت في مركز صحي مكتظ في العاصمة السودانية الخرطوم، ينتظر أصحابها الدخول على الطاقم الطبي، لتشخيص الحالات.

ومن بين المرضى المتواجدين في المركز، عبد الرشيد طه المستلقي على سرير حديدي، وجسده المهنك، يرتجف وعكة صحية تصاحبها أعراض لم يحدد طبيعتها بعد.

وبصوتٍ متقطع، يقول في تصريح نشرته صحيفة الشرق الأوسط 12 سبتمبر 2025 «أُصبت قبل أسبوع، وعندما وصلت للمركز وجدت العشرات يفترشون الأرض بانتظار الفحص. لم أجد سريراً، وتنقلت بين المراكز بلا جدوى. اكتفيت بالمحاليل وأقراص البندول، لكن حالتي لم تتحسن».

وضعية تكشف مدى هشاشة النظام الصحي في السودان، ومدى خطورة انتشار الأوبئة التي وصف بعضها بالغامض، وأرجعها خبراء صحيون إلى استخدام الأسلحة الكيميائية.

انتهاكات مستمرة وسط تجاهل دولي

في غضون ذلك، أظهر تحقيق أجرته محطة “فرانس 24” أن الجيش ألقى برميلين من الكلور في سبتمبر 2024 في محيط مصفاة الجيلي النفطية شمال الخرطوم.

التحقيق نشر 9 أكتوبر 2025، وأكد استخدم غاز الكلور في هجومين شمال العاصمة الخرطوم عام 2024. واستند على بيانات مفتوحة المصدر، ولقطات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، وآراء خمسة خبراء لتأكيد استخدام غاز الكلور.

وتحقق التقرير من مقاطع فيديو تُظهر برميل كلور صناعي أُلقي على ما يبدو من طائرة في 5 سبتمبر 2024 على قاعدة قري العسكرية قرب الجيلي، ما أدى إلى تصاعد سحابة صفراء من غاز الكلور. وأفاد بأن منشأ البرميل شركة هندية صدّرته إلى بورتسودان في آب/أغسطس 2024. وأوضحت الشركة للمحطة الفرنسية أن كان من المفترض أن يُستخدم حصرا “لمعالجة مياه الشفة”.

وتحققت “فرانس 24” أيضا، من تقارير عن إلقاء برميل ثان من طائرة في 13 سبتمبر 2024 على مصفاة الجيلي. فيما قالت قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن “استخدام مادة كيميائية صناعية (…) كسلاح يُشكل سابقة مقلقة”.

في غضون ذلك، أصدرت دولة تشاد مذكرة رسمية موجهة إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، طالبت فيها بالتحقيق في استخدام الجيش السوداني للأسلحة المحرمة في السودان، وهي المرة الأولى التي يطرح فيها ملف استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية منذ إعلان الولايات المتحدة في مايو فرض عقوبات على قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بعد ثبوت استخدام أسلحة كيميائية عام 2024.

ومن جهة أخرى، أعلن التحالف السوداني للحقوق (Sudanese Alliance for Rights) 25 سبتمبر الماضي ، تقديم دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد أربعة من كبار قادة السلطة في بورتسودان ، بينهم البرهان، على خلفية اتهامات باستخدام أسلحة كيميائية، و انتهاكات جسيمة ضد المدنيين خلال النزاع المستمر منذ منتصف إبريل 2023.

وأكد أنه يعمل مع فريق من المحامين الدوليين بهذا الخصوص. وأوضح أن الدعوى تستهدف البرهان، وياسر العطا، وشمس الدين الكباشي، واللواء الطاهر محمد؛ وقال إن الأدلة المقدمة تطالب بفتح تحقيق ومساءلة المتهمين ومحاسبتهم على هذه الجرائم.

وقدم شكوى رسمية إلى المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بشأن الانتهاكات واستخدام الأسلحة الكيميائية، وأخرى إلى رئيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، طالب فيها بـفتح تحقيق عاجل وتجميد عضوية سلطة بورتسودان في المنظمة.

أوبئة غامضة وسط عجز رسمي

ومع الحديث عن السلاح الكيميائي، تفشت في السودان أوبئة غامضة. ونشرت مجموعة “محامو الطوارئ” في أغسطس تقريرًا رصدت فيه عددًا من الظواهر والأدلة التي ترجح استخدام أسلحة كيميائية في منطقة سنار بوسط البلاد.

وقالت المجموعة، إن “أعدادا كبيرة من السكان يعانون من حالات التهابية غريبة، وسط تزايد ملحوظ في حالات الإجهاض وتشوه الأجنة.” وقالت إن الشهادات ” التي حصلنا عليها تؤكد أن ما حدث هو جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، استخدم فيها الجيش الأسلحة المميتة والمحرمة دوليا واستهدف بها قطاعًا واسعًا من المدنيين”.

ضياع في التهميش

في غضون ذلك، ما يزال بعض السودانيين يعيش تحت وطأة عدة التهميش والاضطهاد، منذ 1989، ووصل الأمر إلى أن وصفوا بالخونة والعملاء وبأعداء العروبة والإسلام.

وتجرّع مرارة ذلك بشكل خاص، أفراد قبيلة الزغاوة، التي رغم إعلان عدد من قادتها دعم الجيش السوداني بالمقاتلين والأسلحة، ما زالت مناطقهم تتعرض لقصف مستمر من طرف الجيش في إقليم دارفور بشكل خاص.

وعانت القبيلة تحت حكم الإسلاميين، من التهميش والاضطهاد والتخوين لعقود طويلة فضلا عن الإقصاء من المشاركة في السياسة والاقتصاد، وواجهت التمييز في العديد من المجالات وأدى ذلك إلى الشعور بالظلم والإحباط بين أفراد القبيلة، وساهم في تفاقم الأزمات في المنطقة.
كما أن الجيش السوداني حتى اليوم يصنف أفرادها كمواطنين من الدرجة الثانية، ويمنعهم من الترقيات والتعيينات، ما تسبب في فجوة داخل معسكر بورتسودان.

ويعاني العديد من أفرادها “من الفقر المدقع، وذلك بسبب التهميش وقلة فرص العمل وسوء الأحوال المعيشية وأدى ذلك إلى انتشار الأمراض وسوء التغذية والإعاقة في التعليم كما ساهم في تفاقم ظاهرة الجريمة والتطرف في بعض المناطق” بحسب الناشطة السودانية سارة رزق.

وأشارت إلى أنها “تعد من أكثر القبائل تأثرًا بالتغيرات المناخية، حيث تؤدي هذه التغيرات إلى ارتفاع درجات الحرارة وزيادة ويؤدي ذلك إلى تدهور الأوضاع المعيشية وتفاقم مشكلة الجفاف وتهديد الأمن الغذائي.”

ضرب وحدة السودان

ويرى مراقبون، أن تصنيف الزغازة كأعداء للعروبة والإسلام، من طرف تنظيم الإخوان المسلمين، أحدث شرخا كبيرا داخل تماسك السودانيين فيما بينهم.

وبهذا الخصوص، قال الناشط السوداني خالد عبد الله، إن “من أكثر الجوانب التي عاث فيها الإسلامويون فسادًا وتخريبًا هو ضرب المجتمع في وحدته الوطنية ‏وتماسكه وتكاتفه، وذلك من خلال اللعب على وتر العنصرية والقبلية، الأمر الذي أحدث شرخًا كبيرًا ‏يصعب معالجته لأنه طال البنية الاجتماعية والثقافية في العمق.”

وقال إن “عملية بناء الدولة التي يحتاجها السودان تتطلب الكثير من الأمور المهمة، من بينها وجود كيان وطني ‏كبير ومتخصص في البحث والتقصي حول الدمار الكبير الذي أحدثته الحركة الإسلاموية في بلادنا العزيزة ‏منذ استلامها الحكم وحتى هذه اللحظة التي ما زالت فيها تمسك بتلابيب السلطة.”

وأضاف: “عندما جاء الإسلامويون، جثموا على صدر الوطن لعقودٍ ‏طويلة، وأغرقوه في بحرٍ من القهر والظلام، ثم ما زالوا — بلا خجل — يمنّون عليه بمواصلة مسيرتهم ‏السوداء، وكأن الخراب الذي صنعوه كان منّةً لا جريمة”.

وتابع: “.‎لقد أرهق هذا الشعب النبيل طول الانتظار، وملَّ وعود السياسيين الذين يتحدثون باسمه ثم يتنكرون له، ‏وذاق مرارة القهر تحت الأحذية العسكرية، وظلم الإسلامويين الذين صادروا رزقه وإرادته باسم الدين. ‏ومع ذلك، لم يفقد إيمانه بقدرته على النهوض. فما يزال في عيون السودانيين بريق الأمل القديم، وما زالت ‏في صدورهم نار الكرامة التي لا تنطفئ.”