بعد مرور قرابة عامين على إطلاقه وسط آمال عريضة، يكشف برنامج دعم السكن المباشر عن وجهين متناقضين؛ نجاح نسبي في المدن يقابله فشل ذريع في العالم القروي.
ففي الوقت الذي استفادت فيه آلاف الأسر الحضرية، تجد ساكنة البوادي نفسها محاصرة بين تعقيدات إدارية وقانونية وتصاميم لا تلائم واقعها، مما يحول حلمها في الحصول على سكن لائق إلى سراب، ويطرح تساؤلات عميقة حول جدوى السياسات العمومية الموحدة في بلد يتسم بتنوع مجالاته.
اعتراف رسمي بالفشل
لم يعد الأمر مجرد تكهنات، بل حقيقة أقرت بها أعلى سلطة في القطاع. ففي جلسة برلمانية مساء أول أمس، فجرت فاطمة الزهراء المنصوري، وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، مفاجأة من العيار الثقيل بإعلانها “الفشل” شبه الكلي للبرنامج في الوصول إلى أهدافه بالعالم القروي، مؤكدة أن الطموح الذي وضع لهذه المناطق لم يتحقق، في تناقض صارخ مع الحصيلة الإيجابية المسجلة بالمجال الحضري.
هذا الاعتراف جاء مدعوما بأرقام أولية كشف عنها كاتب الدولة المكلف بالإسكان، أديب بن براهيم، في يوليوز 2025، حيث كانت الأرقام صادمة؛ إذ لم يتجاوز عدد المستفيدين في العالم القروي عتبة 3 آلاف أسرة، وهو رقم ضئيل جدا مقارنة بعشرات آلاف الطلبات المتوقعة والحاجة الفعلية في هذه المناطق التي تعاني أصلا من الهشاشة السكنية.
في المقابل، أظهرت الحصيلة الإجمالية للبرنامج، التي قدمتها الوزيرة، استفادة 66,305 شخصا من أصل 198,064 طلبا مسجلا على الصعيد الوطني، بغلاف مالي إجمالي ناهز 5.4 مليار درهم. وتكشف هذه الأرقام عن هوة كبيرة بين المجالين، وتؤكد أن الدعم لم يجد طريقه إلى الفئات الأكثر حاجة إليه في القرى.
لماذا تعثر البرنامج في القرى؟
حسب تقرير حديث للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فإن أسباب إخفاق البرنامج ليست وليدة الصدفة بل تغذى من خلل في تصميمه الذي أغفل خصوصيات العالم القروي، مما حال دون تحقيق الأهداف المعلنة واستفادة الفئات المستهدفة.
ومن بين العقبات الأولى التي سجلها التقرير، عقبة الملكية العقارية، حيث يشير التقرير إلى أن شرط “التحفيظ العقاري” للاستفادة من الدعم ومنح رخص البناء شكل حاجزا قانونيا أساسيا. فغالبية الأراضي والمساكن بالقرى تفتقر إلى وثائق رسمية، وتعتمد الملكية فيها على العرف والإرث أكثر من التوثيق، ما يمنع استخدام آليات الدعم الرسمية مع شريحة واسعة من السكان.
أما العقبة الثانية فتكمن في تعقيدات مساطر التعمير، إذ يبرز التقرير أن معايير البناء والتصاميم الهندسية المفروضة تبدو كقوالب جاهزة لا تتناسب مع النسيج العمراني والاجتماعي للبوادي. فالبناء الذاتي والتقليدي القائم على مواد وتقنيات محلية يصطدم بشروط تقنية دقيقة وتكاليف لا يقدر عليها كثير من القرويين، ما يحول دون إتمام المشاريع وفق شروط البرنامج.
وتعد الحواجز الإدارية والجغرافية، ثالثة عقبة تواجه هذا البرنامج، حيث يلفت التقرير إلى أن تنقل القرويين لمسافات طويلة نحو مراكز الوكالات الحضرية والموثقين والبنوك يمثل عائقا إضافيا. وتعوق هذه الرحلات المكوكية استكمال مساطر الاستفادة بسبب التعقيدات الإدارية والمالية، فالكلفة الزمنية والمادية تجعل العديد من المستحقين يتوقفون عن متابعة ملفاتهم.
الحكومة تعد ببرنامج جديد.. هل يكفي؟
أمام هذا التعثر الواضح، كشفت الوزيرة فاطمة الزهراء المنصوري أن الحكومة تعكف حاليا على إعداد برنامج جديد ومستقل، مصمم خصيصا لمعالجة إشكاليات السكن في العالم القروي. ورغم أن هذه الخطوة تعد إيجابية، إلا أن المحللين يشددون على ضرورة أن تكون المقاربة الجديدة جذرية وليست مجرد تعديلات سطحية.
ويجمع الخبراء على أن الحل يكمن في اعتماد إطار قانوني مرن يعالج إشكالية الملكية العقارية عبر حلول مبتكرة كشهادات الملكية الإدارية المؤقتة. كما يطالبون بإحداث “شباك موحد للقرب” في الجماعات القروية، يجمع كل المتدخلين لتسهيل المساطر على المواطنين. وفوق كل ذلك، يجب توفير دعم تقني وهندسي ميداني يساعد السكان على دمج معايير السلامة والجودة في بنائهم الذاتي، دون أن يفقده هويته وخصوصيته المحلية.
يذكر أن برنامج دعم السكن يواجه انتقادات حتى في المناطق الحضرية، إذ أشار خبراء اقتصاديون إلى أنه تسبب في تضخم ملحوظ في أسعار العقار، مما قلص من القيمة الفعلية للدعم الموجه للمواطنين. ويرى هؤلاء أن المنعشين العقاريين كانوا المستفيد الأكبر من البرنامج، مما حوّل الدعم، في نظر بعض المراقبين، من مساعدة مباشرة للمواطن إلى رافعة لأرباح الشركات العقارية.
ويبقى برنامج دعم السكن، الذي يمتد حتى نهاية عام 2028، ورشا مفتوحا على عدة تحديات. وبينما تظهر الأرقام الإجمالية صورة “مشرقة”، يكشف الواقع في العالم القروي عن فشل يحتاج إلى وقفة حقيقية ومراجعة شاملة، حتى لا يتحول حلم السكن اللائق إلى امتياز يقتصر على سكان المدن فقط.