في زمن تتشابك فيه المصالح وتتعدد فيه الوجوه، قد يضيع الإنسان بين ما يريد فعلاً، وما يُطلب منه أن يكون. فحقيقة لا مفر منها أن الكثير منا يسعى ويجتهد ويبذل ما في وسعه لتحقيق ذاته وخدمة وتطوير محيطه ومجتمعه، غير أن هذا السعي قد يتحول بعض الاحيان إلى عبء ثقيل، ومصدرٍ للحزن والإحباط والملل، خاصة حينما يُدرك الشخص منا أن ما يفعله لم يعد يُرضي ضميره، ولا يحقق طموحه، ولا يضيف إلى حياته إلا مزيدًا من الإرهاق والتوتر. مما يدفعه للتفكير جديا في التغيير والرحيل للبحث عن افاق اخر توافق طموحاته وتطلعاته المستقبلية وتمكنه من المحافظة على صحته وسعادته وعلاقاته الشخصية والاجتماعية دون أن يؤدي نفسه والأشخاص الذين من حوله.
ورغم هذا الإدراك المؤلم، قد نجد البعض الاخر يتشبث بموقعه، ويرفض الرحيل أو التغيير، حبا وتمسكا بالكرسي، لا لأنه يُجيد الدور، بل لأنه اعتاد عليه! فيُصبح وجوده عائقًا لا إضافة، وعبئًا لا دعمًا. هنا تطرح الحياة سؤالها بصوت عالٍ: هل عجز هذا الإنسان عن تعلّم فضيلة الرحيل؟ أم أن المصلحة الشخصية قد أعمت بصيرته عن رؤية الأذى الذي يُحدثه ببقائه؟
فالرحيل هو فن لا يتقنه الكثيرون، لأن ليس كل من يرحل ضعيفًا، وليس كل من يبقى شجاعًا. أحيانًا يكون الرحيل هو قمة القوة، وأسمى درجات الوعي. أن ترحل عندما تشعر بأن وجودك يؤذي غيرك، أو نفسك، وهو موقف نادر في زمننا الحالي زمن المنافع والتشبث بالكراسي.
لكن الأكثر غرابة، أن من يفشلون في أداء دورهم، ويربكون من حولهم، هم ذاتهم من يرفضون التغيير، لا لشيء سوى لأنهم لم يتعلموا أن الرحيل أحيانًا هو النجاة، والراحة، والكرامة. وهو كذلك مصلحة جماعية راقية
حقيقة إذا ما تمعنا في الزمن بمفهومه الحقيقي ومكوناته الحياتية والطبيعة التي نعيش فيها فإننا قد نجدها تقول عكس ما يروج بحيث نجد أن لاشيء في الطبيعة يعيش لنفسه فقط!! فالأشياء في هذا الزمن خلقت لتخدم غيرها فالنهر لا يشرب من ماءه والبحر لا يأكل سمكه والأشجار لا تأكل ثمارها والشمس لا تُشرق لذاتها فهذه كلها حكم ورسائل ربانية لنا نحن البشر لنعيش ونحب بعضنا البعض ونكون أسرة وعونا فيما بيننا نسعى ونطمح لتكميل بعضنا البعض. فلو قدر الله وافترضنا بأن هذه المكونات الربانية كانت أنانية كأنانية نفسنا نحن البشر، لما استطعنا العيش ولو دقيقة واحدة فيها، وبالتالي فان كل شيء من حولنا قد يرحل ويغيب!!، وهناك مقولة شهيرة للإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول فيها:
نعيب زماننا والعيب فينا – وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب – ولو نطق الزمان لنا هجانا