ذات يوم من أيّام يناير الباردة، غادر السوسيولوجي البولندي “زيجمونت باومان- Zygmunt Bauman” دنيا النّاس هذه، مخلفا وراءه مجموعة من المفاهيم التي رسمت فيما بعد سردية جديدة للأجيال التي تشق طريقها في زمن “الحداثة” وما بعدها؛ ذلك أنّه لما حمل الهمّ السوسيولوجي قيد حياته، لمس تحوّلات رهيبة في المؤسسات الحاضنة للإنسان داخل المجتمع، حتى أدخلتها في حالة من اللايقين، ونزعت منها الآليات والأدوات التي تخول لها الحفاظ على الأدوار الاعتيادية في بناء الإنسان وتكوينه روحيا وعقليا وجسديا.
فالحداثة السائلة المقرونة بالتطور التكنولوجي الجارف، استطاعت استهداف المؤسسات التقليدية وجعلتها عاجزة أمام واقع متحرك وغير قابل للتوقع.
فلا أحد يتخيّلُ كيف أنّ الأسرة ستسقط ضعيفة أمام هذا المدّ وعاجزة حدّ الاستسلام، وتترك دورها التربوي ينفلت من بين يديها شيئا فشيئا لصالح قوة هادرة تستطيع تفكيك البنى الروحية والعقلية والبدنية للطفل وإعادة تركيبها منذ المراحل المبكرة الأولى لولادته وتقوده نحو عوالم أكبر منه، وتعصف بأفكاره ولب قلبه، وتشكل شخصيته بمفاهيم جديدة قد تكون بعيدة كل البعد عن ما هو مأمول أن يُنشّأ عليه؛ فالصبي –عند الغزالي- أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه” (الإحياء).
لقد سقطت الأسرة في فخ متطلبات المعيش اليومي الذي تزداد صعوبته يوما بعد يوم، وانخرط أفرادها في التسابق العنيف لتوفير الرفاه الذي تغذّيه يوتوبيا الرأسمالية المتوحشة بأذرعها الإشهارية التي تقصف ذهنيات الآباء صباح مساء، في وسائل التواصل الاجتماعي، في الشارع العام، في العمل، وفي كل ركن من أركان هذا السوق المفتوح والممتد. وفي ظل هذا التسابق، يضيع الوقت الثمين الذي يُفترض أن يُخصص للأبناء ويشبع حاجياتهم العاطفية دونما أدنى نقص؛ وبالتالي، تصير هذه التشوهات ملازمة لهؤلاء الأطفال وإن كبروا.
أما المدرسة بمفهومها العام (المسجد –روض الأطفال -المؤسسة التعليمية –المعهد -الجامعة…)، فغالبها لم يُجدد وسائل التنشئة التي يعتمدها لتجاوز تحديات العصر الحالي، وبعضها، اكتفى بخدمات مقرونة ب”بيع المعرفة” للتماهي مع احتياجات السوق ومتطلبات القيم الاستهلاكية، دونما اعتبار لفعل التربية.
إن مدرسة اليوم، لم تعد تؤدي المنتظر منها لتنشئة المتعلمين على مواجهة التحديات الراهنة وتربيتهم وفق ما هو مسطر في المناهج التعليمية والمرجعيات المؤطرة للمنظومة التعليمية، ووجهت جل تركيزها نحو المؤشرات والتصنيفات المحددة لجودة التعليم؛ مع الإبقاء على بيداغوجيات تقليدية، تجاوزتها الشاشة التي توفر كمّا هائلا من المعارف بضغطة زر؛ و”مع الأسف، كل المعرفة هي في متناول الجميع”(ميشال سار)، لكن الإشكال يكمن في انتقاء الصالح من هذه المعرفة عبر المنهاج الدّراسي، وكيفية تلقينها ونقلها نقلا ديداكتيكيا في واقع تربوي صلب يتحدى الواقع الرقمي السائل ويتناسب مع المشروع المجتمعي برمته، ويرسي “مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع، تتوخى تأهيل الرأسمال البشري، مستندة إلى ركيزتي المساواة وتكافؤ الفرص من جهة، والجودة للجميع من جهة أخرى، بغية تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع” (القانون الإطار 17-51).
أكاد أجزم، بأن الفورة الرقمية الكاسحة، أثرت بشكل كبير على الأدوار الكبرى لمؤسسات التنشئة الاجتماعية الأصيلة، وبرزت كلاعب جديد في عالم معولم يستطيع بأدواته الرهيبة تفكيك القيم وإعادة صياغتها وفق نماذج معولمة تتجاوز محيطنا السوسيوقتصادي، واستغراق وقت الصغار والكبار ودفعهم نحو إدمان الشاشة، مع ما يرافق ذلك من قدرة الصورة على النفاذ والتأثير؛ وهو ما انتبه له التافهون لبناء تخيلات مشوهة عن المبادئ والقدوات وقيم التربية الأصيلة للمجتمعات، حتى استطاعوا السيطرة على الإنسان الحديث والتأثير عليه.
إن الأجيال التي تنشأ على هذا الوضع، دون أن تُمنح طريقا جديدا تخدم فيه الشاشات الأسر والمؤسسات، وتبني على ذلك نموذجا تربويا صلبا يُحصّن الهوية، يجمع بين الواقع الرقمي الرهيب وأدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية، ستبدو مشوهة دون أيما قدرة على إثبات الذات، ومتذبذبة بين القيم التي تُلقّن في الفضاءات التربوية، وبين تلك التي تحملها الشاشات على وجه السرعة في لعبة غير متكافئة.