أدب وفنون

باع منزله ليصور جرح الهوية والذاكرة السياسية.. فكاك يوقظ ذكرى 23 مارس في “أرض الملائكة”

احتضنت قاعة العروض الكبرى في قصر الثقافة والفنون، مساء السبت، العرض الأول للشريط السينمائي الطويل “أرض الملائكة”، أول تجربة سينمائية طويلة للمخرج رشيد فكاك، الذي يخوض من خلالها غمار المنافسة إلى جانب 14 فيلما آخر على جوائز المسابقة الرسمية للأفلام الروائية.

الفيلم الذي كتب سيناريوه فكاك إلى جانب عبد الله شاكيري، يقدم معالجة إنسانية عميقة لأزمة الهوية التي يعيشها الأطفال المتكفل بهم، من خلال قصة مؤثرة لفتاة في الرابعة عشرة من عمرها تُدعى عاليا، تكتشف ذات يوم أن والديها ليسا والديها الحقيقيين، وأنها وُجدت رضيعة قرب إحدى الحاويات، فتقرر الهروب من المنزل لتبدأ رحلة شاقة نحو التصالح مع الذات واكتشاف جذورها.

يشارك في الفيلم عدد من الأسماء المعروفة، من بينهم نور شاكيري في دور البطولة، إلى جانب ربيع قاطي، فاطمة خير، عبد الله بن سعيد، سلمى سايري وسهر المعطاوي، الذين جسدوا شخصيات متباينة جمعتها قصة واحدة هي البحث عن الانتماء والحب غير المشروط.

وأبرز فكاك، في فيلمه جانبا فلسفيا وإنسانيا نادرا في السينما المغربية، من خلال علاقة البطلة عاليا بالخيل الذي رافقها منذ طفولتها، وشكل صلتها الأولى بالعالم الخارجي بعد صدمة اكتشاف الحقيقة.

وقال المخرج، إن هذا الخيط الرمزي لم يكن اعتباطيا، فـ”الحصان” و”البغل” في الفيلم ليسا مجرد عناصر ديكور، بل رموز لقوة الصبر والوفاء والارتباط بالإنسان، مذكرا بأن البغال لعبت دورا محوريا في تحرير أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، حين شارك آلاف المغاربة في المعارك على الجبال الإيطالية، وكانوا ينقلون الأسلحة والمؤن عبرها، وهي مفارقة أراد من خلالها أن يعيد الاعتبار لما يراه “رموزا نحتقرها لفظيا رغم مساهمتها في تحرير البشرية”.

وأضاف رشيد فكاك في تصريح لـ”العمق”، أن الفيلم أبرز كيف تحولت علاقة الفتاة بالحيوان إلى جسر عاطفي وروحي يقودها إلى التصالح مع ذاتها، خصوصا حين تعود في نهاية الفيلم بعد مرض خيلها، لتدرك أن الحب والرحمة هما ما يصنعان الأسرة الحقيقية، لا الدم فقط.

وقدم الفيلم في المقابل، شخصية أخرى مؤثرة هي ماريا كريستينا، السيدة الإيطالية التي ربت “عاليا” في طفولتها، وشكلت في النهاية مرآة لتجربتها، إذ تروي لها قصتها الخاصة لتجد الفتاة في تلك الحكاية خلاصها الفني والإنساني، ومن خلال هذه العلاقة، يربط فكاك بين الهويات المتقاطعة والثقافات المختلفة، ليجعل من الفن وسيلة للشفاء وإعادة البناء الداخلي.

وأشار فكاك إلى أن اختيار العنوان لم يكن محض صدفة، لأن الأطفال هم ملائكة الأرض، وأن المجتمع المغربي يختزن في ثقافته الشعبية هذا التصور الطاهر عن الطفولة والمواهب النقية.

ورغم طابعه الاجتماعي الإنساني، يحمل الفيلم إشارات سياسية غير مباشرة، حيث أكد فكاك أن اختياره لتاريخ 23 مارس عيد ميلاد البطلة لم يكن اعتباطيا، وأنه يرتبط بذكرى انتفاضة 23 مارس 1965 التي تحولت إلى مجزرة عاشها بنفسه في الدار البيضاء، حين اعتقل أحد إخوته وكان هو نفسه ضمن التيار اليساري السري للماركسيين اللينينيين.

ومن أبرز ما يميز تجربة فكاك هو إصراره على إنتاج الفيلم بجهوده الخاصة، فبعد حصوله على دعم من المركز السينمائي المغربي بقيمة 350 مليون سنتيم، استكمل التمويل ببيع منزله ليتم المشروع الذي وصلت كلفته إلى نحو 700 مليون سنتيم.

وشدد المخرج، على أن الربح المادي لم يكن همه الأساسي في هذه التجربة المميزة في مسيرته الفنية، وإنما إنجاز عمل يحترم فكرته وضميره الفني، حتى لو تطلب ذلك التضحية بكل ما يملك، وفق تعبيره.

ويرى رشيد فكاك، أن ما تعيشه السينما المغربية اليوم ليس أزمة مواهب بقدر ما هو “خلل بنيوي في المنظومة الإنتاجية والتشريعية”، معتبرا أن الدعم الذي يقدمه المركز السينمائي جيد ومهم، لكنه “غير كاف” ما لم تتبعه سياسات عمومية تجعل الثقافة أولوية وطنية، مثلما هي الحال في مجالات الصحة والتعليم.

وأكد المخرج المغربي على ضرورة أن تدرج الأحزاب والقوى السياسية الثقافة في برامجها الانتخابية باعتبارها قطاعا منتجا يدر في بعض الدول كأمريكا وكوريا واليابان أرباحا تفوق صناعة السيارات وتقدر بملايير الدولارات.

وذكر فكاك، بالمقتضى التاريخي الذي تضمنته الرسالة الملكية للراحل الحسن الثاني إلى المناظرة الوطنية الأولى حول المسرح الاحترافي عام 1992، والتي نصت على اقتطاع 1% من ميزانيات الجماعات المحلية سنويا لبناء المسارح ودعم الفنانين.

غير أن هذه البنية التحتية – كما يقول – تحولت مع الوقت إلى فضاءات مغلقة، لأن من يديرها يجهل أهمية الثقافة وقيمتها التنموية، داعيا إلى تمكين الكفاءات الثقافية والفنية من تسييرها لتتحول إلى مصانع للإبداع لا مجرد مبان خاوية.

وحول اعتماده على أدوات الذكاء الاصطناعي في معالجة مشاهد الحرب العالمية الثانية، وتجسيد الدور التاريخي للمغاربة فيها، أوضح فكاك أن اهتمامه بتقنيات D3 والـAI نابع من إيمانه بأن مستقبل السينما مرتبط بالتطور التكنولوجي، لأن هذه الأدوات تختصر الكلفة وتفتح إمكانات إبداعية هائلة أمام المخرجين المغاربة.