منوعات

إعفاء ابن كيران..هل احترم الدستور؟

قبل أن يجفّ الحبر الذي كتبت به نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، خِيضت سجالات نظرية متواصلة حول السبل التي سينهجها فُرقاء الحياة السياسية المغربية، في سبيل احترام البنود الدستورية، وفي نفس الوقت مواصلة الاختلاف السياسي. وهكذا تزاحمت التوقّعات حول ما إذا كان رئيس الدولة سيعين الأمين العام للحزب الحائز على الأغلبية كما تقضي الأعراف في البلدان التي تعتمد النظام البرلماني، أم أنه سيُعين من داخل نفس الحزب شخصية أخرى غير الأمين العام للحزب، استنادا إلى أن الدستور لم يكن حاسما في هذا النقطة. وأكيد أن تبايُن التوقعات لم يأتِ من فراغ، وإنما جاء بناء على تعدّد المؤشرات التي برهنت على أن هناك سوء تفاهم حاصل بين عبد الاله ابن كيران، وبين المؤسسة الملكية، وأن أجواء الحكم تحوم حولها غمامة تحول دون صفائها. غير أن حَماوة التوقّعات سرعان ما بردت، عندما قَطعت الأخبار الواردة من القصر الملكي، الشك باليقين، وأعلنت أن الشخص المُعيّن، هو الأمين العام للحزب الفائز بالأغلبية، وأنه لا سبيل إلى مزيد من السجال بخصوص هذه النقطة، وأن الممارسة الدستورية سائرة في اتجاه تكريس عرف دستوري يقضي بأن الشخص المعني بالتكليف الحكومي هو أمين عام الحزب الذي جاء في المرتبة الأولى. وقد ساعد على هذا التوجه أمران اثنان: وجود وثيقة دستورية ولدت من رحم حِراكات شعبية، رفعت شعار الملكية البرلمانية، واصطفاف قادة حزب المصباح خلف زعيمهم، وعدم التحمّس لتنصيب أي شخص آخر من نفس الحزب. لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ ولماذا تغير موقف الحزب؟

الحاصل، أن الابتعاد عن لحظة 7 أكتوبر، كان يخفف من نشوة الانتصار التي ميزت إحساس أعضاء العدالة والتنمية، ويقربهم من الانفتاح على مقترحات وأفكار لم تكن لتكون مقبولة لديهم غداة الاعلان عن النتائج، لذلك تم منحهم فرصة للتفكير العميق، في إمكانية تعيين شخص من داخل حزبهم غير أمينهم العام، الذي ساعده لسانه قبل وبعد دينامية 20 فبراير على أن يصبح مقبولا لدى دوائر الحكم، لكن نفس اللسان سيخونه عند دنوّ أول انتخابات برلمانية، وشرع في إلقاء تصريحات متناقضة تارة يعبر من خلالها على الثقة الملكية، وأخرى يستنجد فيها بالمشروعية الشعبية، تارة يحذر من أجواء الربيع الديمقراطي، وأخرى ينبه إلى ما يحدث في دول الجوار من خراب ودمار. ومن هذا المنطلق، كان حزب العدالة والتنمية كلما طال أمد غياب تشكيل الحكومة، أصبح قريبا من تقبّل الحلول التي ستُقترح عليه. إذ من الوارد جدا أن مباراة تأخير الحكومة التي لُعبت أشواطها فوق ملعب الاتحاد الاشتراكي، واستُدرِج إليها ابن كيران، الذي يسهل أطباء علم النفس السياسي التنبؤ بردود فعله عندما يُحشر في الزاوية، كانت تهدف بالأساس إلى الابتعاد عن أجواء النصر التي كان يسوقها ابن كيران ومناصريه، وقد صاحب هذه المرحلة تسويق انتصارات موازية حققتها أطراف أخرى، سواء على الجبهة الإفريقية، أو على مستوى التحركات الداخلية، إضافة إلى خلق مجموعة من الأجواء السلبية التي تُظهر عودة الدولة السلطوية، واغلاق قوس الانفتاح على الاسلاميين، وذلك بتسريب وثائق تُصنف الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية ضمن المنظمات الدينية التي ينبغي مراقبتها، والإعفاءات الجزئية لعناصر من جماعة العدل والاحسان من مناصب مسؤولية، وهي كلها مؤشرات حققت نوع من الخلخلة في أنفس إخوان ابن كيران، وجعلتهم يقتنعون بأن المستهدف هو إنهاء تجربة حزبهم في اللعبة السياسية، وأنه من أجل تفويت هذه الفرصة على من يسمونهم “مدبري التحكّم”، لا بد من التعاطي الايجابي مع ما تجود به قريحة محيط القصر، وهذا ما أبانت عنه التصريحات المتواصلة التي عبر من خلالها قادة حزب المصباح عن ترحيبهم بقرار الملك، ودعهم لسعد الدين العثماني. ساعد في ذلك حُسن اختيار خليفة ابن كيران، إذ أن هذا الأمر ساهم في جعل الأمر متقبلا سيما وأنه احترم التراتبية الموجودة داخل الحزب، حيث مرّ الاختيار الملكي من الرجل الأول في الحزب إلى الرجل الثاني (رئيس المجلس الوطني والمرشح لخلافة ابن كيران على رأس الحزب)، وربما يكون الهدف أيضا هو تقوية موقع العثماني في رئاسة الحزب، والتقليل من فرص وزير العدل مصطفى الرميد الذي يعتبر من صقور حزب العدالة والتنمية والمقرب من أحمد الريسوني الرئيس الأسبق للتوحيد والاصلاح، والقادم من رابطة المستقبل الاسلامي (هناك اختلاف بين أعضاء الاصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الاسلامي فيما يخص النظر إلى المشاركة السياسية). ماذا عن سؤال المقال: هل احتُرم الدستور؟

من الوارد جدا أن واضعي الدستور المغربي، كانوا على علم بالبياضات التي يعرفها الفصل 47 من الدستور (المدة الممنوحة للرئيس المكلف، والاجراء المتبع إذا فشل في مهمته)، وقد صرح فعلا أحد أعضاء لجنة المنوني، أنهم كانوا على بينة من الأمر. لكن يبدو أن المشرع الدستوري لم يرغب في تسييج الملك بخيار واحد يلجأ إليه دون غيره، لذلك ترك الباب موارَبا على أكثر من خيار، يذهب إليه الملك حسب السياق السياسي: اختيار شخص آخر من داخل الحزب، المرور إلى الحزب الثاني بناء على تأويل معين للدستور يقوم بها رئيس الدولة في إطار الممارسة الدستورية، الاعلان عن انتخابات جديدة بناء الفصل 42 من الدستوري.

لقد فضل الملك اللجوء إلى الخيار الأول، لأسباب متعددة أهمهما: الابقاء على قوس الانفتاح على الاسلاميين مفتوحا وعدم منح فرصة للحركات الراديكالية للانتعاش (العدل والاحسان تحديدا)، تفويت الفرصة على حزب العدالة والتنمية حتى لا يعود للمعارضة بما يحمله من معطيات وقدرات على الفعل المعارض في ظل ضعف منافسيه، كما أن وجود حزب الأصالة والمعاصرة في المرتبة الثانية جعل أمر الذهاب إلى الحزب الثاني محفوفا بالمخاطر، لأن خطوة من هذا النوع ستؤدي إلى خلق اعتقاد عام بأنه “تم إفشال ابن كيران بهدف منح حزب “صديق الملك” فرصة لرئاسة الحكومة، أما اللجوء إلى خيار الانتخابات الجديدة فهو أيضا خطوة غير محسوبة لأنها يمكن أن تضيف إلى رصيد العدالة والتنمية، سيما وأنه سيدخلها بنفسية المنتصر في انتخابات 7 أكتوبر، و”الصامد” في وجه مساومات الاملاءات. لذلك كان اللجوء إلى خيار تكليف الشخص الثاني في الحزب أنسب الحلول، وقد ساعد فيه أيضا التصريح الشهير للوزير الرميد الذي صرح بأنه “لن يكون ابن عرفة”، بحيث أزاح نفسه عن التنافس عن منصب رئاسة الحكومة، بعدما كانت حظوظه أقوى من سعد الدين العثماني، الذي تراجعت شعبيته داخل حزب الخطيب في السنوات الأخيرة، بعد الانتعاشة التي عرفها أنصار ابن كيران، وتحكمهم في دواليب الحزب على المستوى الوطني والمحلي.

غير أن سؤالا إشكاليا يبقى مطروحا أمام هذه المستجدات: إذا كان لجوء الملك إلى خيار الاختيار من داخل الحزب، لا يخالف الدستور، ويجد سنده داخل الممارسة الدستورية التي من شأنها أن تتحول إلى عرف دستوري إذا استقرت، (الممارسة الدستورية المغربية متأثرة جدا بالتجربة الفرنسية الديغولية)، فما هو تأثير هذه الخطوة على مستقبل الأحزاب السياسة في المغرب؟

اشتُهِر عن مؤرخي الثوارات العاليمة، قولهم: “الثورات تأكل أبناءها”، أي أن الذين يخوضون الثورات يكونون هم أول ضحاياها، وأن الذي يجني ثمارها هم المتخادلون. وهذا الأمر رغم مَجازيته، ورغم أنه لا مقارنة مع وجود الفارق، يكاد ينطبق إلى حد ما، على ما حدث لحزب العدالة والتنمية، فـ “ثورة الصناديق” التي وسمها أنصار الحزب في 25 نونبر 2011، أكلت زعيمها الذي رفض نزول الحزب إلى مدمار حركة 20 فبراير واتخذ قرارا فرديا في هذا السياق، جعل أربعة من قادة الحزب يجمدون عضويتهم في أمانته العامة، بينما تعيد شخصا آخر من نفس الحزب إلى واجها السلطة في المغرب، وهو الشخص الذي شارك في أولى مسيرات حركة 20 فبراير مرفوقا بزميله في الحزب مصطفى الرميد الذي كان يصرخ رافعا شعار: “لا ديمقراطية بدون مليكة برلمانية”. أما على المستوى الراهن، فالرجل الذي كان يطوف المغرب من شماله إلى جنوبه، يخطب ودّ الجماهير من أجل التصويت عليه أولا وعلى حزبه ثانيا من أجل استكمال المشوار، والذي كان يقول للمواطنين “اعطوني أصواتكم واتركوني منّي ليهم”، أصبح اليوم بعيدا جدا عن حكومة سعد الدين العثماني (إذا كُتِب لها أن توجد). هذا الأخير الذي لم يكن له ثقل كبير في الانتخابات السباقة ولم يُسجّل له أي تأثير في شعبية حزبه، وإنما ظل يحتفظ بابتسامته المصطنعة حتى في عزّ الأزمة، بل إنه حتى في دائرته الانتخابية (المحمدية) لم يقوَ على خوض حملتها الانتخابية إلا بمؤازرة من أمينه العام الذي يخلفه اليوم ويسعى إلى شغل مكانه. فكيف يثق إذن، زعماء الأحزاب مستقبلا في الإجراءات التي يخوضونها في سبيل نيل الشعبية وتحقيق الانتصار إذا كانت المشروعية الشعبية لا تكفي إلى نيل المنصب السياسي، وإنما لابد من توفر شروط أخرى؟ ألا يؤدي الأمر إلى دفع زعماء الأحزاب إلى تجنب الإقدام، في مقابل احتراف الاختفاء عندما يحتدم الصراع، والنأي بالنفس عن خوض النزالات؟