منتدى العمق

التعليم العتيق بالمغرب، إلى أين؟!!

التعليم العتيق هو تعليم نظامي يعتمد على تدريس العلوم الشرعية، بالموازاة مع دراسة المواد العلمية لكنها تعتبر مواد ثانوية، فقط يستأنس بها لأن وظيفتها أصبحت مهمة في الحياة. و يرتكز هذا التعليم على العلوم الشرعية التي هي المقصد من إنشاءه، وبالحفاظ على ما كان عليه. له مؤسساته ومعاهده وأجهزته التي تسهر على تسييره.

إن المغرب سنة 29 يناير 2002 الموافق ل 15 ذي القعدة 1422 قام بوضع قوانين تنظم دراسة العلوم الشرعية التي كانت تحت إشراف الشيوخ والعلماء. فهؤلاء الشيوخ كانوا يكونون حلقات علم في رحاب المساجد والزوايا، ويدرسون العلوم دراسة تامة؛ بحيث يحفظون القرآن ويضبطونه للطلبة، كما كانوا يحفظون المتون المحكمة مع شرحها.

ومما كان يزيد هذا قيمة أن نتيجته كانت تظهر مباشرة بتخرج شيوخ وعلماء عارفين، عالمين، عاملين بما تلقوه، وكان لهم زاد معرفي كبير جدا، كما كانوا يحظون بمناصب ومهام عليا، ويقومون بها أحسن قيام. وكانت هذه الزوايا والمساجد تمول فقط من طرف المحسنين؛ لكن بعد أخذ الدولة زمام الأمور وضبط ذلك بقوانين خاصة والتحكم فيما يدرس، وكيف يدرس، فقد تغيرت الأمور.

فوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية أسست مديرية التعليم العتيق، وأرادت منه أن يصير تعليما نظاميا، وأخذت وزارة التربية الوطنية(التعليم العمومي) قدوة لها؛ بوضع جدول العطل السنوية مماثل، وتسمية العلوم بالمواد ، ووضع قوانين تنظمية مثل: (المراقبة المستمرة، الإمتحانات الموحدة، الشواهد…) كل هذا صراحة شيء جميل جدا، ويحسب للدولة، وتشكر على كل هذا. لكن يجب أن نعلم أن هذا كان سبب في خلل كبير جدا، وهذا الخلل ظهر مؤخرا في نسبة التحصيل العلمي الذي أصبح في تدهور. ويظهر جليا بالمقارنة بين نسبته في الفترة القديمة، وفي فترة دخوله إلى النظام التعليمي المغربي. كما أن هذا شيء ملحوظ لا غبار عليه.

وكل هذا يرجع إلى عوامل أدت إلى هذه النتيجة المؤسفة. فمن بين هذه العوامل: كثرة المواد التي بلغ عددها للسلك الثانوي 20 مادة: (الفرائض، البلاغة، التوقيت، الرياضيات، اللغة الفرنسية، النحو، الحديث، اللغة الإنجليزية، القراءات،النصوص الأدبية، الفكر الإسلامي، علوم الحديث، الإجتماعيات، الإعلاميات، التفسير، الفقه، أصول الفقه، الفلسفة، المنطق، الخطابة) بالله عليكم، كيف لطالب أن يضبط كل هذه المواد!!!، وهو يدرسها جميعها في سنة واحدة، وحصصها معدودة على مر أيام الأسبوع، وأيضا من بين المواد أنها محتكرة على 4 ساعات في الأسبوع الواحد!!!

فهل لهذا الطالب أن يحفظ، أم يفهم، أم يضبط، لا ثم لا يمكن بتاتا أن يجمع بين كل هذه الأمور. أنا هنا أحكي بحكم تجربتي المتواضعة التي أخوضها بالتعليم العتيق. صراحة فالطالب يبقى في متاهة تسمية المواد لا غير. فيكتفي في آخر المطاف إلى أخذ إطلالات خفيفة عن كل علم من العلوم، لأنه يبقى له هذا هو الحل الوحيد والأخير. ومن هنا يسقط المقصد من إنشاء هذا التعليم.

والطامة الكبرى التي عرفها التعليم العتيق مؤخرا هي منهج المقررات الدراسية (كتاب التلميذ والتلميذة)، بعكس ما كان في الأصل من أخذ منهج تدريس كتب ومجلدات الشيوخ القدامى. المقارنة بين هذين المنهجين مقارنة منعدمة انعداما تاما. فكيف تتم إزاحة مجلدات كبرى للشيوخ وتعويضها بكتب هزيلة للتلميذ والتلميذة ذات مردود علمي ضعيف جدا. هذا مما لا يقبله العقل. صراحة برأيي أن هذه هي البذرة الأولى في إسقاط هذا التعليم، لأننا لو رجعنا إلى التاريخ القريب،

التربية الوطنية المغربية كانت قد نهجت نفس النهج في ما يسمى بالتعليم الأصيل؛ بإزاحتها للكتب الضخمة وتعويضها بكتب مدرسية؛ والنتيجة واضحة على مرأى العين الآن في المستوى الدنيء الذي يعرفه هذا التعليم.

فمن خلال تأملنا في الواقع يمكن أن نقول أن التاريخ يعيد نفسه مع التعليم العتيق الذي تشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

رسالتي إلى جميع المؤسسات والأجهزة الساهرة على هذا الكنز العظيم المسمى بالتعليم العتيق رسالة رجاء. فنرجوا منكم إنقاذ هذا التعليم من الضياع والاندثار بإجراءات مستعجلة من نقص المواد الثانوية، ونقص في الدروس، والإكتفاء فقط بالضروري الذي سيزيد من الطالب مكنة منه، فالتعليم العتيق هو مستقبل هذا البلد.
إذا لم يهمكم التعليم العتيق بحد ذاته، ففكروا في هذا البلد!!!