قبل أيام قليلة كنت قد كتبت مقالا وأسلفت فيه الذكرعن الأثر البالغ لوباء كورونا، سواء على حاضر الإنسان أوالحضارة الرأسمالية، كما أوضحت أن للوباء نتيجة حتمية لا مناص منها ستمس النظام العالمي، الذي يؤطر الشبكة الممتدة والمتشابكة إلى حد التعقيد في العلاقات فردية كانت أم جماعية.فكل إنسان هو حصيلة لشبكة معقدة من العلاقات الاقتصاديةوالاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية والنفسية في ظرف تاريخي محدد، وخلال هذا الظرف بالذات خصوصا مع مستجدات الوباء القاتل لعشرات الآلاف من الناس بتعدد أوطانهم ومراتبهم الاجتماعية، تعرف الحالة النفسية للمجتمعات توتر وقلق يتزايد يوما بعد يوم، وقد لعب الإعلام والمتابعة الدورية لمستجدات الموت والخراب دورا مساعدا ومسرعا في خلق مزيد من الإضطرابات النفسية، إذ يوفر سلسلة متواصلة من حالة الكآبة والمآسي، تدخل الذات الإنسانية في قلق متزايد أشد خطورة من الوباء نفسه، كل إنسان على شبر الأرض يعلم بمستجد كورنا والكل في حالة متابعة وخوف، فتأمين الحياة يقتضي أن يواكب الإنسان المستجدات التي تحصل بالكون وبوطنه وعائلته وأسرته، حتى يتمكن من التفاعل مع محيطه المادي والروحي بشكل فعال ومنتج.
وفي تقديري الخاص، فالمقاربات التي تنهجها الدول مع الوباء تخلو من الفحوى الإنساني، إذ تنطلق من الحسابات الضيقة و مآلها الفشل كما لها انعكاسات سلبية حاضرا ومستقبلا، إن التعاطي مع وباء كورونا بشكل معزول كعدو جرثومي وفقط هو خسارة البشرية لمعركة الحياة، فالإجابة السليمة عن الوباء تتطلب أساسا النظر للوباء كفيروس بيولوجي، له آثارا وقوة التأثير والتأثر في وضع الأفراد والأسر والعائلات والجماعات، والدول والتكتلات، من الناحية الاقتصاديةوالاجتماعيةوالنفسية والأخلاقية، ومن ضمن الفئات الاجتماعية التي نزل عليها الوباء بكل ثقله هم الأفراد الذين يعيشون في حالة اضطرابات نفسية تحتاج خلال هذه المرحلة الدعم الفوري واللامشروط. فهذه الفئة من الناس الآن تعيش أتعس لحظاتها في ظل الحجر الصحي المرفوق بالصمت الدولي والوطني عنها، وعدم تقديم أي دعم سوسيو-إقتصادي ونفسي يذكر، مع العلم أن منظمة الصحة العالمية مؤخرا في دراساتها قدرت عدد المصابين بالأمراض النفسية والاكتئاب خاصة بما يزيد عن 300 مليون حالة في العالم، وبالمغرب حوالي مليون و 500000، أرقام مخيفة وإن نظرنا لها بعين الإنسانية سنرى الملايين من الناس خلال هذا الظرف تحت الحجر الصحي في حالة كآبة وخراب داخلي ينتظرون التدخل العاجل والضروري.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإحصاء هو المصرح به من طرف منظمة الصحة العالمية التي أشارت كذلك مؤخرا في تقارير إلى أن كل فرد من خمسة أفراد 1/5 في البلدان العربية مصاب بأحد الأمراض النفسية، هذه فقط أرقام تقريبية أما الأعداد الحقيقة فهي أكثر وأفظع، وذلك راجع للخجل من الكشف عن الأمراض النفسية والذهنية في ثقافة الناس و العرب خاصة، ومن جهة أخرى ليس كل المرضى يتابعون حصص العلاج النفسي بالمصحات العمومية التابعة للدول، وبالتالي فهذا العدد لا يستهان به ويجب أخذه بعين الاعتبار في مقاربة الموضوع.إن فيروس كورونا عمق الجراح وزاد من حدة الاكتئاب التي يعيشها الملايين من الناس بالعالم وبالمغرب خاصة، خصوصا في ظل غياب الوعي والتربية النفسية بالمجتمعات، وعدم تقدير خطورة وضع هؤلاء المرضى.
ولعل ما دفعني لكتابة هذا المقال هو أن الوعي بأن الأمراض النفسية يرجع منشأها إلى مجموعة من العوامل، فإلى جانب ما هو بيولوجي وقد يكون وراثيا نجد، أن ما هو اجتماعيواقتصادي يلعب الدور الأساسي لأن الرأسمالية والتربية على الفردانية ولدت ذاتية قاتلة عميقة في أجساد الناس، هذه الذاتية جعلت من الكون حلبة صراع من أجل السيادة، بفعل هذه التربية علق الإنسان طموحات كبيرة انسجاما وما تريده ذاته بلوغه لكن الواقع والشروط الموضوعية من حيث التركيبة الاجتماعية/الطبقية، وشكل الدول ونظمها في شروط ما تقف في وجه الفرد فتتبخر تلك الطموحات الضامنة للسعادة الذاتية،وهكذا تقع الذات الخاضعة لتربية الرأسمال في حالة من التناقض بين الطموح والإمكانات والشروط، حالة يصعب الخروج منها دون فهمها فتنزلق الذات بذلك إلى حالة من الكآبة، فكلما طالت إلا وصارت مرض نفسي وجب الوعي به والبدء في العلاج والتخلص منها، فهذه الظروف الاقتصاديةوالاجتماعية وكذلك السياسية والثقافية والتربوية والأخلاقية والبيولجية والبيئية مجتمعة ساهمت في الزج بالعديد من الناس في حالة نفسية تزداد سوءا في ظل الحجر الصحي، وهذا ما ينذر بالخطر في المستقبل.
إن أخشى ما أخشاه هو عندما ينتهي الناجين من إحصاء وفيات كورونا، سنصبح أمام وباء جديد هو قيد التراكم والتشكل الآن في نفوس الملايين بالعالم والآلاف من المغاربة خصوصا، وحتى لا يستفحل الأمر أكثر مما ينبغي أمميا وبالمغرب خاصة إلى جانب إجراءات مواجهة جائحة كورونا، من الضروري كذلك توفير الرعاية الاجتماعية والنفسية للحالات التي تعاني من الأمراض النفسية وتجد صعوبة بالغة في اجتياز مرحلة حالة الطوارئ والحجر الصحي. في هذا السياق لابد من الإقرار بالحقيقة التي أعلنها التاريخ للبشرية جمعاء بأن الإنسان في الحاجة للتعليم والصحة، ولأن شروط استمرار الحياة توقفت على الاهتمام بالقطاعين التعليم والصحة المرفوقين بالتربية الاجتماعية والنفسية، فمن الضروري العمل على استعادة ما تم تفويته للخواص وقد حان الوقت كذلك لمراجعة السياسة التعليمية والصحية، ببرمجتها وفق حاجيات المجتمع ونهضته وليس وفق سياسية التقويم الهيكلي وإملاءات صندوق النقد الدولي. وفي سياق ما قد يفيد حقا الوطن والشعب والمكتئبين ينبغي إطلاق مشاريع للإدماج الاجتماعي، ومساعدة ما يناهز 2مليون مغربي الذي يعانون من أمراض نفسية كالاكتئاب، وفي نفس الوقت إعطاء الفرصة لحاملي الشواهد بشعب علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة لخدمة المجتمع والاستفادة من قدراتهم خلال هذا الظرف العصيب، بمساعدة المرضى على بلوغ وضع نفسي أفضل وجعلهم أناس أكثر فاعلية على الصعيد الاجتماعي مستقبلا، فالمساعدة الاجتماعية و الاقتصادية أمر ضروري لعلاج المرضى النفسيين والمكتئبين خاصة، فكما تمت الإشارة أن الخلل والإجابة عنه ليس في ذوات المرضى بل الخلل/ الإجابة في منظومة البنى التحتية والفوقية وتفاعلهما الديالكتيكي، ونموذج تقسيم العمل وما يفرزه من منظومة ثقافية وأخلاقية سائدة تعكس الخراب في إنسان عصر الرأسمال البورجوازي.
* باحث في التاريخ والحضارة