وجهة نظر

اتفاق الصخيرات: “باقي…ويتمدد”

تعيش الساحة الليبية على واقع اصطفافات خطيرة وتجاذبات إقليمية ودولية توشك أن تقضي على آخر مظاهر سيادة الدولة في ظل تحكم بعض القوى الإقليمية والدولية من ناصية القرار السياسي الليبي لتتحول معه “بلاد المختار” إلى كعكة تتقاسمها الأطماع الخارجية بعيدا عن أي اعتبار لمصلحة الشعب الليبي الذي قاد الثورة ضد نظام العقيد معمر القذافي سنة 2011م.

ورغم تعدد المبادرات والاتفاقات لوضع حد لحالة الاحتراب العسكري بين حكومة الوفاق الوطني في الغرب والجيش الوطني الليبي في الشرق إلا أن هناك شبه إجماع بأن وثيقة الصخيرات لازالت تتربع على عرش المبادرات الجادة والعملية القادرة على احتواء جميع التوجهات المتعارضة والمتناقضة، حيث نجحت أن تسمو بفقراتها وبنودها لتؤسس لمصالحة ليبية-ليبية قادرة على إرجاع ليبيا إلى حاضنتها المغاربية وإلى مكانتها المتميزة على الساحة العربية والدولية.

في هذا السياق، قام المغرب، من منطق الجوار المغاربي والواجب العربي والإسلامي وإيمانا منه بوحدة المصير بين الشعوب المغاربية، إلى احتضان الحوار الليبي-الليبي على التربة المغربية وبدل مجهودات جبارة باركتها العناية الإلهية لتفرز لنا وثيقة الصخيرات والتي يمكن القول بأن شموليتها وتفاصيلها جعلت منها المرجع الأصيل والملاذ الأول والأخير لأية تسوية سياسية آنية أو مستقبلية، وهو ما دفع بالأمم المتحدة إلى الإسراع بتبنيها واعتبارها المرجعية القانونية والدستورية الوحيدة لأية تسوية سياسية في ليبيا.   

وبالرجوع إلى المرتكزات الأساسية لاتفاق الصخيرات نجد أنه راعى مصالح جميع أطراف الصراع وقدم حلول واقعية وقانونية من شأنها الاستجابة إلى الهواجس الأمنية التي تهدد المنطقة المغاربية والإفريقية وتأخذ بعين الاعتبار إكراهات الأمن القومي للدول الموجودة على الضفة الشمالية للمتوسط.     

وفي تقديرنا الشخصي، فإن فشل أو إفشال عملية التنزيل المادي لوثيقة الصخيرات كان من نتائجه إدخال ليبيا في معادلة عسكرية يصعب حسمها ميدانيا في ظل دخول بعض القوى الإقليمية والدولية على الخط ومحاولة تقديم أجنداتها ومصالحها على حساب انتظارات الشعبي الليبي الذي يرى بأم أعينه تبخر أحلام ثورةٍ قُدمت من أجلها دماء زكية من خيرة أبناء ليبيا.

على مستوى المتن، سطرت وثيقة الصخيرات على رأس أولوياتها ضرورة القضاء على الإرهاب كأحد الأهداف السياسية الكبرى للاتفاق وهو الرهان الاستراتيجي الذي من شأنه تجنيب ليبيا التحول إلى منطقة من مناطق “التوحش” وهو ما تسعى إليه التنظيمات الإرهابية وتطمح إلى تحقيقه بعض الأجندات التي ترى في مشروع التقسيم أحد أهم مداخل التنزيل العملي لمشروع الشرق الأوسط الجديد وهو ما يهدد وحدة الكيان وينذر بتمزيق الوحدة الوطنية الليبية. من أجل ذلك اعتبرت الوثيقة بأن “تنفيذ هذا الاتفاق، بحسن نية، سوف يتيح الأدوات اللازمة لمعالجة تحديات محاربة الإرهاب وإصلاح وبناء مؤسسات الدولة وتحفيز التنمية الاقتصادية والتصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية وترسيخ سيادة القانون وحقوق الإنسان في جميع أرجاء البلاد”. 

في هذا الصدد، راهن الذكاء الجماعي للمشرفين على صياغة اتفاق الصخيرات على ضرورة الحفاظ على السيادة الليبية وتقوية هياكل الدولة كمقدمة مؤسساتية لمكافحة الظاهرة الإرهابية، وهو الهاجس الذي عبر عنه الموقعون على الوثيقة والذين أعربوا جميعا عن “قلقهم البالغ من ازدياد الخطر الذي تشكله الجماعات الإرهابية على سيادة ليبيا، ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، وعلى انتقالها الديمقراطي، ورفضهم التام للتطرف والإرهاب بكافة أشكاله ومظاهره بغض النظر عن دوافعه“. هذا الهاجس ستعود المادة 23 من الاتفاقية للتأكيد عليه من خلال نصها على رفض الجميع لمنطق التكفير ونشر الكراهية والتطرف والتعصب بجميع أشكاله وهو أرقى ما يمكن أن يميز الدولة المدنية الحديثة ويعكس منطق القانون والمؤسسات.

ويمكن القول بأن الاتفاق السياسي الذي تم التوقيع عليه في المغرب قد توقع واستبق واقع الأحداث اليوم وتنبئ بتحولات البيئة الاستراتيجية الليبية حين نص على ضرورة “الالتزام بحماية وحدة ليبيا الوطنية والترابية وسيادتها واستقلالها، وسيطرتها التامة على حدودها الدولية ورفض أي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية الليبية“، وهو البند الثابت الذي أعادت صياغته نصا جميع المبادرات الإقليمية والدولية التي أعقبت اتفاق الصخيرات والتي ظلت جميعها متبعة وغير مبتدعة في صياغة التوافقات السياسية والمواءمات المرحلية للنزاع الليبي.

لقد تفطن المغرب مبكرا لمشاريع إخضاع ليبية وثرواتها لوصاية دول إقليمية ودولية أو لمشاريع سياسية-دينية قد تمهد لتحول هذا البلد المغاربي إلى قاعدة خلفية للإهاب وهو ما دفع بالوثيقة إلى التركيز على الطابع المدني للدولة الليبية بما يقطع مع جميع المحاولات التي قد تحاول إخضاع ليبيا لأجندات فوق ترابية أو إلحاق ليبيا بمشاريع توسعية إقليمية لم تعد خافية على المتتبع العادي بله المتخصصين في السياقات الجيوستراتيجية لتدبير النزاعات.

إن إفراغ النصوص القانونية لاتفاق الصخيرات يجعل جميع مؤسسات الدولة الليبية حاضرة بقوة وبشكل يضمن تنزيلا سياسيا متوازنا لمبدأ فصل السلط مع التأكيد على آلية التوافق في تدبير الملفات الكبرى للدولة حيث نصت المادة 12 من المبادئ العامة  على ضرورة “التزام كل من مجلس النواب ومجلس الدولة وحكومة الوفاق الوطني وكذلك المؤسسات الأخرى المنبثقة عن هذا الاتفاق بإعلاء مبدأ التوافق في مباشرتها لمهامها وتعزيز التعاون والتنسيق فيما بينها لضمان حسن سير العملية الديمقراطية والتكامل والتوازن بين السلطات جميعها”.

ولعل ما يؤسف له أن البعض حاول، عن حسن أو سوء نية، إسقاط اتفاق الصخيرات ربما دون حتى الاطلاع على تفاصيله واستنباط مقاصد روح الوثيقة السياسية والتي نجزم أنها بقيت على مسافة واحدة من جميع الأطراف. كما أن من يرفض الآن اتفاق الصخيرات بدعوى أنه شكل الغطاء السياسي لحكومة الوفاق، ربما خانته الحنكة السياسية في قراءة بعض بنود الوثيقة والتي يمكن أن تشكل أرضية لانتقاد ومحاسبة حكومة السراج للجوئها إلى دعم بعض الميليشيات التي تصنف في خانة الجماعات الإرهابية، حيث تنص المادة 17 من المبادئ العامة صراحة على ضرورة تحمل حكومة الوفاق مسؤولياتها في مواجهة وإدانة ومكافحة الأعمال الإرهابية بكافة أشكالها وأنواعها ومصادر تمويلها “مع تحميلها المسئولية الحصرية عن مكافحة الإرهاب وضرورة التزامها وتقيدها بالإجراءات القانونية وقانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المنصوص عليها بالاتفاقيات والمواثيق والمعايير الدولية بهذا الخصوص“. 

من جانب آخر فإن البرلمان الليبي المنتخب تم منحه صلاحيات جد موسعة بما يضمن مبدأ توازي وتوازن السلط وهو ما يمكن استقراؤه من خلال المادة 20 التي أعطت للبرلمان الليبي حصانة قوية لقراراته التشريعية حتى عندما يتعلق الأمر بأجهزة سيادية وعلى رأسها الجيش، حيث ينص منطوق المادة على ضرورة  “الالتزام بتطبيق القرارات الصادرة عن السلطة التشريعية بشأن حل ودمج التشكيلات المسلحة في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وإعادة تأهيل منتسبيها بما يتماشى مع المعايير والممارسات الدولية”.

لن يقف اتفاق الصخيرات عند هذا الحد بل سيتعداه إلى ضرورة ضمان الأمن القومي الإقليمي لدول الجوار والمنطقة عن طريق الدفع بتقوية مؤسسات الدولة وأجهزتها كمقدمة لمحاربة الهجرة غير الشرعية وظاهرة الاتجار في البشر (المادة 28) من خلال التنسيق مع دول الجوار والمجتمع الدولي بما يتماشى مع القوانين والاتفاقيات الدولية.

ولعل أهم الأهداف التي حاولت تحصينها اتفاقية الصخيرات والتي تعتبر، على الأقل علانية، مطلبا ملحا وآنيا للمجتمع الدولي، هو ضرورة المحافظة على الثروات الطبيعية والموارد الوطنية ومؤسسات الدولة الاقتصادية والمالية المملوكة لكل الليبيين واستثمارها لصالحهم ولصالح الأجيال القادمة، وعدم جواز التحكم أو التصرف فيها إلا من قبل السلطات الرسمية للدولة ووفق التشريعات الليبية النافذة ذات الصلة وعدم إقحامها في أي نزاع سياسي (المادة 32).

وبالانتقال من أركان الوثيقة السياسية إلى الواقع الميداني نجد أن طرفي النزاع تم استدراجهما، مع سبق الإصرار، إلى الوضع الحالي الذي تعيشه ليبيا، بعدما فقدت الرموز الوطنية روح المبادرة وهو ما أفقدها ناصية السيادة السياسية لتتحول ليبيا إلى كرة تتقاذفها الأطماع الخارجية والمصالح الإقليمية والدولية.

وإذا كنا نقر بخطأ حكومة السراج بلجوئها إلى الاستقواء بقوى إقليمية واستنجادها بتنظيمات إرهابية تمتلك أجندات “تمكينية” بعيدة عن مفاهيم الدولة المدنية التي أسست لها وثيقة الصخيرات، فإننا، وبنفس القدر، نسجل خطأ الجيش الوطني الليبي عندما حاول اللجوء إلى الحسم العسكري السريع عبر إخضاع العاصمة طرابلس كمركز ثقل سياسي لحكومة الوفاق وهو ما دفع بهذه الأخيرة إلى اللجوء إلى جميع أساليب البقاء المشروعة وغير المشروعة أو ما يطلق عليها ب “طاقة اليأس”، بالمفهوم الاستراتيجي، للحفاظ على بقائها واستمرارها.

ختاما يمكن القول بأن اتفاق الصخيرات سيظل المرجع الوحيد والأوحد لأي اتفاق سياسي مهما حاول البعض تغيير التسميات أو المضامين، ومهما اختلفت العناوين وتعددت المبادرات، على اعتبار أنه جاء نتاج توافقات وطنية وتفاهمات قبلية وسياسية أطرتها المصلحة العليا للشعب الليبي الشقيق. 

وحتى إذا ما تطلب الاتفاق بعض التعديلات هنا أو هناك فإن المغرب ما فتئ يعبر عن مرونة كبيرة وتقبل لأي اقتراح في هذا الخصوص، وهو ما تم التعبير عنه دبلوماسيا وسياسيا من خلال الاتصالات والاستقبالات التي قام بها وزير الخارجية المغربي لطرفي النزاع، وهي اللقاءات الذي أكد من خلالها السيد ناصر بوريطة بأن المغرب لا يصطف لا مع عَمر ولا مع زَيد، وبأنه على مسافة واحدة من جميع الأطراف الليبية، مع التأكيد بأن القفز على اتفاق الصخيرات سيجعل ليبيا تُخلف موعدها مع التاريخ، وكأن لسان حال الدبلوماسي المغربي يقول “أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير”.