حوارات

في حوار مع “العمق”.. يحياوي يعلق على القاسم الانتخابي ويعدد ثوابت ومتغيرات الخريطة الانتخابية

اعتبر مصطفى يحياوي، أستاذ الجغرافيا السياسية وتقييم السياسات العمومية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية للمحمدية، أن المغرب بحالة فريدة لم يعتد عليها المشهد الحزبي على الأقل منذ 1997، بعدما كان مسار التشريع الانتخابي، خاصة فيما يتعلق بنمط الاقتراع، يمر عبر آلية التوافق، ثم اللجوء إلى التحكيم الملكي متى استعصى الأمر على الفرقاء الحزبيين.

وأوضح يحياوي في حوار مع جريدة “العمق” حول “رهانات الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ومستقبل الإصلاح السياسي”، أن المشهد السياسي تحول إلى مسار انتخابي محكوم بتنازع المصالح فيما يهم التأويل السياسي للتصويت الانتخابي، لافتا إلى “أننا أمام واقع انتخابي بحسابات تؤكد أن استحقاقات 2021 لدى مجمل الأحزاب بمثابة لحظة تأجيل أزمة الوهن المؤسساتي التي تعيشه”.

وعدَّد المحلل السياسي ثوابت ومتغيرات الخريطة الانتخابية خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة، واضعا الأحزاب ضمن ثلاثة أصناف رئيسية في هذا السياق، معتبرا أن التطور التاريخي للدورة الانتخابية أدى إلى ارتباك آليات الاستباق السياسي الذي يتأسس عليه التقطيع الانتخابي، مشيرا إلى أن هناك 4 مسائل في الحجاج القانوني ستحسم الجدل حول دستورية القاسم الانتخابي الجديد.

وفيما يلي نص الحوار كاملا:

ما تقييمكم للنقاش الدائر حاليا حول القاسم الانتخابي ولجوء حزب العدالة والتنمية إلى الطعن في دستورية التعديلات المصادق عليها من طرف البرلمان بهذا الشأن؟

بقراءة متأنية إلى ما بلغته الأمور في أثناء مناقشة البرلمان لمشاريع القوانين المؤطرة للانتخابات المقبلة، نلاحظ ما يلي:

أولا نحن أمام حالة فريدة لم يعتد عليها المشهد الحزبي المغربي على الأقل منذ 1997، حيث إن مسار التشريع الانتخابي، خاصة فيما يتعلق بنمط الاقتراع، كان يمر عبر آلية التوافق، ومتى استعصى الأمر على الفرقاء الحزبيين، يتم اللجوء إلى التحكيم الملكي.

بيد أن هذه المرة، كما في 2016، اختلف الأمر، والكل يعلم منذ أكتوبر 2020 أن الأحزاب لم تستطع أن تتوافق على ثلاثة أمور خلافية، منها على وجه الخصوص “القاسم الانتخابي”، وقد ظهر أن العدالة والتنمية تختلف الرأي مع بقية الأحزاب. وبالرغم من ذلك، عرضت مشاريع القوانين الانتخابية على المجلس الوزاري، ولم تلجأ الأحزاب إلى طلب التحكيم الملكي.

يفهم من هذا أن التوافق الحزبي، على الأقل على مستوى الأغلبية الحكومية، لم يعتبر ضروريا، ولم يعد، بالتالي، أمرا مشروطا يستبق خلاف مكوناتها أثناء عرضها للمناقشة والمصادقة على مجلس النواب. وهنا، في رأيي، يكمن تحول بنيوي في مسار التشريع الانتخابي، وقد تأكد، بمصادقة لجنة الداخلية والجلسة العامة في غرفتي البرلمان، على أننا أمام أغلبية نيابية فوق الأغلبية الحكومية، وأن آلية التوافق الجمعي لم تعد ذات جدوى.

بالجملة، تحولنا نحو مسار انتخابي محكوم بتنازع المصالح فيما يهم التأويل السياسي للتصويت الانتخابي: هل التفوق الكمي العددي للأصوات محدد حاسم في احتساب المقاعد وتوزيعها، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون بروزا جماهريا غير ذي أهمية فيما يخص حيازة الشرعية الانتخابية الموصلة للتمثيل الشعبي؟

ثانيا نحن أمام واقع انتخابي بحسابات تؤكد أن استحقاقات 2021 لدى مجمل الأحزاب بمثابة لحظة تأجيل أزمة الوهن المؤسساتي التي تعيشه، والتي أثبتت أن جلها قد فقد القدرة على تجديد نخبه وعلى التنافس الانتخابي بالشكل الذي يناسب التحولات المجتمعية الكبرى.

نحن أمام وضعية جد معقدة، فبينما الأرضية الدستورية تحرص على التعددية الحزبية وعلى مركزية وظيفة الوساطة السياسية للأحزاب في مسار التراكم السياسي للانتقال الديمقراطي، نجد أن أغلبية الأحزاب لا تتوفر على القدرة المؤسساتية والتنظيمية التي تمكنها من تجديد قاعدتها الانتخابية واستدامة تعبئتها الاجتماعية في جغرافية القرب.

بالنتيجة، نحن أمام واقع يفرض من جهة حماية التعددية الحزبية من أي بروز طويل المدة لحزب قادر على الصمود التنظيمي وعلى تجديد آليات اشتغاله الانتخابي، ومن جهة آخرى ضرورة حماية مكتسبات الديمقراطية الانتخابية التي أفرزتها العشرية الأخيرة، والتي تميزت بشفافية غير قابلة للطعن تضمنها الإرادة الملكية في أثناء مرحلة فرز الأصوات والاحترام المسطري لإرادة صناديق الاقتراع.

في رأيكم، ما هي ثوابت ومتغيرات الخريطة الانتخابية خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة؟

لنعد إلى توجسات معظم الأحزاب من إنتاج “حزب أغلبي” في أفق استحقاقات 2021، ونحاول فهمها عبر تفكيك إفرازات الدورة الانتخابية ما بين 2002 (تاريخ اعتماد نمط الاقتراع باللائحة) وبين انتخابات 2015-2016.

وأبدأ الحديث بملاحظة منحى تطور الكتلة الناخبة للأحزاب التسعة الأولى الممثلة في مجلس النواب للولاية التشريعية العاشرة. فنحن أمام ثلاثة أصناف من الأحزاب:

(1) حزبان قادران على التقدم (أحدهما يعتمد تطورا مضطردا في كتلته الانتخابية يتلاءم وتقدم تغطيته للدوائر الترابية، والآخر، وليد العشرية الأخيرة، يرتهن تقدم منحنى كتلته الانتخابية بتراجع منحنيات أحزاب بعينها؛ بمعنى أوضح، أن كتلته الانتخابية غير محكومة بالتزام سياسي وهي قابلة للتعبئة بحسب العوامل المؤثثة للعملية الانتخابية).

و(2) أربعة أحزاب حافظت على استقرار كتلتها الانتخابية بين معدل 8000 و4000 صوتا.

و(3) ثلاثة أحزاب غير قادرة على تأمين كتلة انتخابية تجاوز معدل 4000 صوتا.

ما يفهم من هذا الدورة الانتخابية أن هناك تطور متسارع نحو قطبية “مجالية” حادة ما تزال -سياسيا- غير واضحة بشكل كاف على مستوى الخلفية الإيديولوجية والسياسية للبرامج الانتخابية؛ كما هناك منحى تقاطعي بين الطرف المجالي والطرف السوسيولوجي لهذه القطبية في توزيع مقاعد الدوائر المحلية، وهو ما يؤكد الاستمرار النسبي للمواضعة السياسية القائمة على تقاطع الثنائية المجالية: المجال القروي في مقابل المجال الحضري، مع الثنائية السوسيولوجية للأحزاب: أحزاب الأعيان وأحزاب المناضلين.

في نفس السياق، يلاحظ أيضا أن الامتياز الانتخابي لحزب المناضلين يرتفع كلما زادت الكثافة السكانية، وهو ما يفسر أن المزاج الانتخابي في انتخابات التشريعية لـ2016 قد انتصر مجددا بشكل ملحوظ لحزب العدالة والتنمية في النطاق المجالي المطل على المحيط الأطلسي الذي يتميز بكونه يشكل قطبا مجاليا واحدا يتألف من مجموعة من الوحدات الحضرية ذات الكثافة السكانية المتوسطة والعالية الممتدة نحو الضواحي –Une Macrocéphalie de la conurbation- والتي تمتد من الدار البيضاء- السطات إلى أكادير –جنوبا-غربا-، و إلى طنجة- القنيطرة شمالا- شرقا.

بالجملة، لقد أفضى التطور التاريخي للدورة الانتخابية إلى ارتباك آليات الاستباق السياسي الذي يتأسس عليه التقطيع الانتخابي، والذي يفترض عدم قدرة أي حزب على ضمان اتصال الخطوط -أفقيا وعموديا- على طول الشريط الأطلنتيكي من طنجة إلى أكادير، ووسطا من فاس- مكناس- مراكش، وعلى الأطراف من تطوان إلى وجدة ثم بعدها إلى الراشدية فالالتقاء مع أكادير جنوبا، ليمتد -تدريجيا- التمدد المجالي نحو الأقاليم الصحراوية المغربية إلى حدود جهة الداخلة- وادي الذهب.

فبإمعان النظر في نتائج انتخابات 2016، سنجد أن انفلاتا في المزاج الانتخابي قد حدث في بعض المناطق المعروفة تاريخيا بحساسيتها السياسية (الشمال، وجدة، الأطلس المتوسط، الأطلس الكبير، الدار البيضاء، مراكش، فاس-مكناس، والأقاليم الجنوبية)، والتي خضعت، في الغالب الأعم، في الاستحقاقات الانتخابية منذ الاستقلال إلى ضبط سياسي صارم يضعف حظوظ حزب من صنف “أحزاب المناضلين” في الظفر بأكثر من مقعد واحد في الدائرة الانتخابية الواحدة.

هل لهذه التغيرات المجالية للخريطة الانتخابية دلالات سياسية واجتماعية؟

يبدو من خلال القراءة تقاطعية للانتخابات التي جرت خلال العشرية الأخيرة أن العلاقات الاجتماعية قد انتعشت في الظرفية الانتخابية، وقد أدت إلى ظهور على الأقل ثلاثة أنواع من السلوكات الانتخابية:

السلوك اللاعقلاني الموجب لاختيار آخر دقيقة وهو مرتبط بتقييم مصلحي مؤقت للمحفزات المادية التي يمكنها أن تبرر القبول بعرض دون غيره من العروض الانتخابية للمرشحين.

السلوك العقلاني الذي ينزاح عن ضغط سياق الحملة، وينأى صاحبه بنفسه عن إغراءات اللحظة، فيتجه إلى حسم اختياره يوم الاقتراع عبر استحضار معلومات من الأزمنة وعلاقات نفسية واجتماعية خارج زمن الحملة والبرامج الانتخابية.

سلوك غاضب من أجواء الصراع “العنيفة” و”المتوترة” التي صاحبت التنافس الانتخابي ومن خيبة الأمل في جدوى اختياراته السياسية ومشاركته الانتخابية.
هذه السلوكات الثلاثة فيها، في اعتقادي، جزء من التفسير السوسيولوجي لـست خاصيات ميزت تلك الانتخابات :

عدم تأثير الحملة والبرامج الانتخابية في اختيارات الناخب، حيث إن تقارب أحجام أصوات الحزبيين الأول والثاني مع حصيلتيهما في انتخابات الجماعية والجهوية لـ 4 شتنبر 2015 والانتخابات التشريعية لـ 7 أكتوبر 2016 يزيد من احتمال أن الناخب حسم تصويته قبل بدء الحملة، وأن العوامل المستحضرة في اختياراته ترتبط بمختزلات معلوماتية/Raccourcis d’informations ولدت لديه قناعات سياسية- انتخابية بشكل مبكر أفضت لحدوث تمثل ذهني لأقرب الأحزاب إليه؛

شيوع التصويت المفيد أكثر من غيره؛

تراجع نسبة المشاركة في انتخابات 2016 بالمقارنة من انتخابات 2011 وانتخابات 2015؛

التحول المتسارع نحو قطبية حادة يستحوذ فيها الحزب الأول (العدالة والتنمية) والثاني (الأصالة والمعاصرة) على 57% من عدد المقاعد وعلى ما يناهز 49% من الأصوات الصحيحة؛

بروز واضح لظاهرة تقلب المزاج الانتخابي (volatilité électorale) لدى جزء يسير من الكتلة الانتخابية بالمقارنة بين انتخابات 2011 و2015 و2016؛

عدم مطاوعة اختيارات الناخب للاستباقية التقنية التي وقفت وراء تخفيض العتبة إلى 3% على مستوى الدوائر المحلية، حيث البلقنة تراجعت من 18 حزبا ممثلا في مجلس النواب السابق إلى 11 حزبا.

إذن للتعديلات التي طالت القاسم الانتخابي علاقة سببية مع هذه المتغيرات التي طالت الخريطة الانتخابية والمزاج السياسي العام للناخب؟

بالتأكيد الجواب بالإيجاب، فتحليل متغيرات وثوابت الدورة الانتخابية خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة (2002-2016) يثبت لنا أن مسار الديمقراطية الانتخابية يتجه بإيقاع تحول سريع نحو تقاطب ثنائي حاد لا يسعف القدرات التنافسية لجل الأحزاب. بمعنى آخر، باعتماد نمط الاقتراع اللائحي على أساس عتبة 3 في المائة وقاسم انتخابي مسنود إلى الأصوات الصحيحة، أخذت الدورة الانتخابية منحى محفوف بالمخاطر على مستوى ضمان استقرار مجمل مكونات المشهد الحزبي واستمرار وجودها.

وبالنتيجة، “التعددية الحزبية” التي دار حولها تاريخ الصراع السياسي بالمغرب لم تعد مضمونة، وأصبحت حياة جل الأحزاب مهددة بالانحباس الاضطراري. إذن، كان لابد، في رأي الأحزاب التي تدافع على هذه التعديلات، من مراجعة التشريع، ولو ظرفيا، لتفاذي مأزق النهاية المحتومة لأحزاب بعينها، أو بالأحرى لإنقاذ حظوة نخبتها المركزية واستمرار الحاجة لخدماتها.

هل لذلك كلفة سياسية؟ نعم. من غير المستبعد أن الثقافة/الممارسة السياسية العابرة للدساتر سيستدعي “الهشاشة النافعة” (1) مرة أخرى ليحي تقليدا عاما درج عليه المشهد الحزبي المغربي: التناوب السياسي على السلطة لا يفرز عبر صناديق الاقتراع فحسب، وإنما أيضا عبر التوافق المبني على رؤية موحدة للفرقاء فحواه أن ضبط إيقاع الأحزاب وأحجامها على مستوى المقاعد شرط لاستدامة العملية الانتخابية. هل بهذا النحو من الواقعية السياسية ستتقدم الديمقراطية الناشئة بالمغرب؟ في رأيي واقع المشهد الحزبي بالمغرب راهنا غير قادر على الحسم في درجة صدقية الجواب بالإثبات.

ما الذي سيحكم رأي المجلس الدستوري فيما يخص دستورية تعديلات القاسم الانتخابي؟

في الأيام المقبلة، أعتقد أن أربع مسائل في الحجاج القانوني ستحسم الجدل حول دستورية القاسم الانتخابي المصادق على تعديله مؤخرا في البرلمان:

أولا: هل السلطة التقديرية المستعملة في المصادقة البرلمانية غير ضارة بالمسار الديقراطي كما أسس له دستور 2011؟

ثانيا: هل العدالة الانتخابية تسمح بالقياس على غير المصوتين، والحال أن الصوت الانتخابي تعبير عن خيار حر للمواطن؟

ثالثا: هل حماية ‘التعددية الحزبية’ مقتضى يحتمل البناء عليه في تقدير شروط وقواعد المنافسة الانتخابية؟

وأخيرا، كيف سيقرأ – قانونيا- التضارب بين القانونين التنظيميين المتعلقين بانتخاب مجلس النواب ومجالس الجماعات الترابية (الجماعات والجهات)، حيث الأول يقر بعدد المسجلين/المقيدين قاعدة لاحتساب القاسم الانتخابي، والثاني بعدد المصوتين؛ علما بأن جميع هذه الاستحقاقات المزمع تنظيمها خلال هذه السنة ستجرى في نفس اليوم، بمعنى أن تصويت نفس الناخب سيحسب تارة بناء على قاعدة المسجلين، وتارة أخرى على قاعدة المصوتين؟

ــــــــــ

* (1) نظرية الهشاشة النافعة تعني بكل بساطة دفع الحزب إلى الضعف، كلما بلغ درجة من القوة التأثيرية في المشهد الحزبي تجعل منه في أعلى سلم المخاطر التي تهدد استقرار ميزان القوى المتواضع عليه في النسق السياسي للدولة عامة، والهندسة الانتخابية خاصة.