وجهة نظر

السؤال اللغوي عند ابن خلدون وتحديات اللغة العربية

لا أحد يجادل أن مقدمة ابن خلدون ستظل إرثا انسانيا علميا رائدا ورصينا، وسيظل “الفكر الخلدوني” في مسيس الحاجة إلى المزيد من “الحفر الابيستيمولوجي” في مكنوناته واجتهاداته وتأصيلاته وتقريراته العلمية الذكية التي أدلى وشارك بها في مجموعة من التخصصات والأنساق المعرفية المختلفة (العالم المشارك بالتعبير التراثي)، إنه عبقرية فذة،سبق زمانه بتعبيرالمحقق علي عبد الواحد وافيفي كتابه (عبقريات ابن خلدون). وفي الورقة التالية إبراز لبعض آراء ابن خلدون في اللغة – كأمّ للظواهر الإنسانية وأعقدها بامتياز- كما يعتبرها شيخ البنيويين كودليفي ستراوس، ومحاولة لرصد بعض التحديات التي زالت تقف حجر عثرة أمام اللغة العربية بمناسبة احتفالنا بيومها العالمي.

يعتبر ابن خلدون اللغة وسيلة مفصلية ومحورية في “البناء الأممي” وأساسا متينا في كلحضارة. فالصنائع – واللغة من الصنائع – والعلوم والحِرف تكثرُ حيثُ يكثرُ ويزدهر العمران، ويعرفها بكونها أصوات يعبر بها قوم عن أغراضهم وهو التعريف الذي يلتقي فيه مع مؤسس الدرس اللساني الحديث السويسري فرديناند دوسوسير الذي يعتبر اللغة مؤسسة اجتماعية بوصفها نسق من العلامات والاشارات تتواصل بها جماعة لسنية معينة.

إن تَنَاقُص العمران في رأي ابن خلدون معناه تناقص الصنائع بالضرورة، يقول وهو يفكّك ويشرح “الوضع اللغوي” وما آلت إليه الفنون زمن انهزام المسلمين في الأندلس ” وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلهاـ فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض”() إن ربط الوضع اللغوي وغلبة اللغة وانتشارها بفكرة التقدم أمر بيّن في تحليله. إن مقارنة ابن خلدون للمستوى الحضاري المشرقي والمستوى الحضاري للأمة المغربية ووفور العمران في المشرق وقلته في المغرب مسألة تعكس بجلاء هذا الطرح الذي تبناه الرجل.إن علم البيان مثلا باعتباره علما كماليا في العلوم اللسانية برع فيه المشارقة والعلوم الكمالية لا تتواجد إلا حيث يكثر العمران “والمشرق أوفر عمرانا من المغرب وما اختصّ أهل المغرب بالبديع إلا لأنه سهل المأخذ لأن المغاربة أقل عمرانا “وبالجُمْلَةِ فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسبب ذلك والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه…”().

إن الرقي الحضاري معناه رقي هذه اللغة التي تحمل هذه الحضارة فهي عنوانها العريض، يسعفنا هذا الذي ذكرنا أن نستنتج ما يلي :
إن ما تعرفه العربية اليوم من تراجع وضيق إنما هو في الحقيقة جزء من هذا التخلف النسقي المركبالذي تعانيه الذات العربية الإسلامية بسبب تسولها الفكري والاقتصادي والمعرفي، إن أزمة العربية هي ترجمة وانعكاس لهذه الأزمة الحضاريةوالثقافية العامة التي يعاني منها العقل العربي اليوم.إنه جزء من التشظي والتمزق والانغلاق والعجز الحضاري الذي تعانيه هذه الذات بعدما أصبحت تستورد المعرفة والمفاهيم العلمية والتقنية والتكنولوجيا الذكية كما تستورد البضائع وباقي المنتجات الصناعية في الوقت الذي لا تصدر للعالم سوى ثقافة الرفض والموت.

فاللغة حسب صاحب “المقدمة” هي تبعل أهلها إن تقدموات قدمت وإن تخلفوا تخلفت .. ، ذلك أن الظاهرة اللغوية وفق هذا المنطق الخلدوني تبقى كائنا بريئا، تتأثر بالنسق العام الاقتصادي والسوسيوثقافي كما تتأثر أيضا بالمستوى السياسي السائد لهذه الجماعة اللسنية الناطقة بهذا اللسان أو ذاك، ويبقى ما قدمه ابن خلدون في “مبحث الاكتساب اللغوي كمبحث ألسني علمي دقيق” عملا رائدا جدا يقارب ما راكمه رائد الدرس اللسني الحديث الأمريكي نعوم تشومسكي وكبار اللسانيين المعاصرين – نظريا- وإن كان النسق السوسيوحضاري الذي اشتغل فيه ابن خلدون يختلف عن النسق الذي اشتغل فيه نعوم تشومسكي وغيره.

إن اللغة بتعبير آخر وفق الفلسفة اللغوية الخلدونية مرآة تعكس وضع أهلها.. تزدهر وتنتشر تنمو بتقدم أهلها، ويتطور معجمها وثروتها اللفظية بحسب اجتهادات واضافات أصحابها واسهامهم في صرح الحضارة الانسانية الذكية واختراعاتهم، إن ابن خلدون ربط تطور اللغة ربطا عضويا بنفوق سوق الصناعات (الصناعة بمعنى العلم في الاصطلاح الخلدوني) والمعارف والترجمة والتطور الحضاري العام، وتتراجع هذه اللغة حسبه دائما بتراجعأهلها وتخلفهم وهرمهم الحضاري،أي ما اسماه هو بالأفول والهرم الحضاري.

إن ابن خلدون تكمن فكرته التقدمية – في كونه أشار مبكرا إلى أن امتلاك السلطة الاقتصادية والسياسية معناه بالضرورة امتلاك السلطة / السوق الرمزية واللغوية والثقافية وهي نفس الفكرة التي سيعيدها مجموعة من السوسيولسانيين في الفترات الحديثة أمثال الالماني فيشمان. ( حين حديثه عن المعايير المحددة للغة كنسق )أي أن لغة الأقوى هي التي تسود.

إن أكبر مجهود وتحد ينتظر اللغة العربية هو إخراج ((المعجم التاريخي)) الى الوجود واحياء المشروع الذي بدأه فيشتر حينما كان عضوا في المجمع اللغوي القاهري أنذاك، المعجم التاريخي ذلك المعجم الذي يبحث في مفردات اللغة “بحثا اتيمولوجيا” أي أصلها واشتقاقها والتطورات التي لحقت المفردات اللغوية عبر السيرورة التاريخية، والدلالات التي أخذتها هذه الألفاظ، كما هو الشأن في معجم أكسفورد في اللغة الإنجليزية الذي استغرق (مدة 70 من اعدادهوتأليفه) على المجامع اللغوية العربية التقليدية وعلى المكاتب التنسيقية والمعاهد المصطلحية المتخصصة التي تستهلك الملايير سنويا من الدعم المؤسسي بعدما عهد إليها مؤسساتيا الدفاع عن العربية وتجديدها وتطويرها أن تتخلص من عباءة التقليد، ومن الأسلفة اللغوية المظلمة كما يسميها اللساني المغربي الفاسي الفهري، أوالتوقيفية اللغوية كما يسميها رشاد الحمزاوي ( معجمي تونسي).. لإنقاذ ما يمكن انقاذه لتطوير العربية وتطويع معجمها الذي لم يعد يفي للتعبير عن منتجات العصر ومفاهيمه العلمية التي أصبحت تقذفها بالآلاف الحضارةالأخرى من الضفة ما وراء البحر بشكل يومي هائل كوبيرنيكي.

إن عبقرية اللغة في أدبيات السوسيولسانيات الحديثة وفي منطق الحضارة الانسانية الذكية اليوم لم تعد تقاس بقصائد المدح والهجاء التي ألفت في التراث، ولم تعد تقاس بزخم المرادفات ولا الاضداد التي افتخرنا بها ولا زلنا كونها خاصية من خصائص غنى العربية وسعتها، في الوقت الذي أصبح التحدي الكبير المطروح أمام اللغات البشرية الحية اليومهو إيجاد الدال الواحد للمدلول الواحد في اطار ما يعرف في المصطلحية الحديثة “بالأحادية الدلالية” فهذه المرادفات المتعددة التي تعود في الأصل الى طريقة تدوين وجمع العربية في القرون الهجرية الأولى كان لها ما كان من التأثير على إشكالية توحيد المصطلح في الترجمة كإحدى الإشكاليات والمعضلات التي لا زالت تعاني منها الترجمة في الثقافة العربية ولاسيما في العلوم الدقيقة.. فلا يعقل أن يترجم مصطلح أجنبي واحد بعشرات المقابلات العربية ( مصطلح(linguistique )مثلا ترجم إلى العربية حسب عبد المسدي ب 25 مقابل .. ولا يخفى على المهتم الباحث ما يشكله هذا الامر من إرهاق منهجيلدى الطلبة والباحثين والمتخصصين على السواء.

إنمرونة وعبقرية اللغة أصبحت تقاس عند آل الفكر السوسيولساني بقدرة هذا النسق اللغوي أو ذاك على هضم المستجدات الحضارية، ونحت وتوليد المصطلحات / الدوال ومساوقتها للمفاهيم والمدلولاتالمستجدة لكل المخترعات في الوقت المناسب،للتعبيرعن تعاريج الفكر ومشكلاته المعرفية الدقيقة،على الطبقة اللغوية التقليدية”الشائخة” التي لا زالت تتشاجر هناك في المجامع اللغوية حول جزئيات تافهة كتعريب العلوم من عدمها ومعجمة المولَّد والمعرب من الألفاظ من عدمه أن تتخلص من فكرة القداسة والأفضلية وشرف اللغة العربية عن باقي اللغات؛ هذه الفكرة لم تخدم العربية في شيء عبر تاريخها الطويل.. ليست هناك لغة مقدسة ولا لغة أفضل من لغة أخرى، والدرس اللساني الحديث حسم في هذه المسألة وقرر مبدأ تكافئ اللغات، إن كل اللغات البشرية متساوية أمام الله وأمام اللساني كما قال رائد المدرسة التوليدية التحولية نعوم تشومسكينفس الشيء تقرر في الدرس الأنثروبولوجي وهو مبدأ تكافئ الثقافات الانسان. بالإضافة إلى اشكالية تدريس اللغة العربية وقواعدها في نظامنا التربوي البيداغوجي الذي لا تزال طريقة تقليدية لقد فشلنا في تدريس اللغة العربية وعلينا أن نتحلى بالجرأة والشجاعة الكافية للاعتراف بذلك لتجاوز العطب مستقبلا والاشتغال على العربية في مستواها البيداغوجي والديداكتيكي لتطوير نظامها النحوي والصرفي والبلاغي لتيسير تعلمها أمام الناشئة، بالإضافة الى توفير معاجم حديثة تنحو المنحى العصري في التأليف والتصنيف بعيدا عن كل تقليدانية مملة.

ــــــــــــ
المراجع المعتمدة :
-ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد الواحد وافي .
2- عبقريات ابن خلدون ، علي عبد الواحد وافي .