منتدى العمق

إبراز تجليات تراث الملحون في إبداع مجموعة “لمشاهب”

تلعب الفنون بوجه عام،  دورا أساسياً، في تهذيب النَّفس الإنسانيةِ، وتنمِيَةِ الإحساسِ بالجمال، ورَفْع مستوى تذوقه، كذا الارتقاء به، لدرجات أعْلا، من الثقافة، ورهافة الحس… فالموسيقى، منذ أن نشأت، كحركة لفطرة طبيعية، إلى أن وَصلتْ، إلى ما وصلت إليه، من البحث، في التراث الإنساني، و العلم، والتقنية، والإبداع، ظلت مُصاحبة، لوجود الإنسان، خلالَ مراحل تطوره، مُعبرة عنه،  جيلا بعد جيل.. من هنا، تتحدد قيمة الموسيقى، باعتبارها، لغة في مركز الصدارة، يتخاطب بها الناس، لغةٌ سريعة النفاذِ، إلى الوجدان، والعواطف، لها قوة تعبيرية، تصل إلى أعماق النفس، بتأثيرٍ سحري، لا يتوافر، في أي فن آخر.. من هنا نجزم  أن مجموعة “لمشاهب “، كحركة  موسيقية ، ممتدة في الزمن، والمكان، قد أنبأت منذ زمانٍ، بالشيء الكثير… أنبأت، بإحياء الغناء الجماعي، بزخم كبير، كما أنبأت بالإصرار، على السير، في تشييد عالم،  تتناغم فيه الأشياء، والأقوال، أنبأت بخطابٍ، يُعْلِن، عن مَوْتِ التَّواصُل الشفَّاف، ومن ثمَّة، أعطت مكانةً مرموقة،  للمتلقي المتعدد، فجاء النص “لمشاهبي” متعددا … جامعاً، متعدداً من حيث التأويلات المُمكنة، وفق عوامل مُمْكنة،  ما جعلها بحق، حركة ثقافية عميقة، ارتبطت بمجمل التحولات الفكرية، الفنية، الاجتماعية، والسياسية، تلك التي أفرزتها فترة، ما بين 1965 – 1972، الموافقة لما أنبأت، به الشروط العامة المؤطرة، لمُجمل ممارسات تلك الحقبة، فاستطاعتْ بكل اقتدار، أن تنقل الأغنية المغربية، من مرحلة الاستنساخ، إلى مرحلة الإبداع، الشيء الذي جعل شباب البلد، يقبل بكل أريحية، على ترديد أغانيها، في كل المحافل، و المناسبات، لا لشيء، إلا لكونها، أضحت معبرة عن همومه ، مشاغله، و أفكاره.. في سياق تصاعدي، كجواب، على ضرورة، ملء الأغنية ” لمشاهبية “، بمفجِّرات شعبية، تتناسق وآلام، ومطامح الخط الصُّعُودي للإنسان، المتجاوب، مع عصرٍ، يُقبِرُ عصور الظلام.

لقد جاءت أغاني، ” لمشاهب “، تخاطب في الانسان انسانيته، اعتمادا على إيقاعات صوفية، مستوحاة، من زوايا كثيرة، عيساوية – كناوية – وحمدوشية – تُخلِّص المُنجَذِبَ، لأنْغَامها الساحرة، من قيود المادة، فالارتقاء صعودا إلى عوالم الروح، مرتكزة منذ نشأتها الأولى، على أعضائها في التأليف، ووضع الألحان، فكانت أشبه، بمختبر فني، يضم محمد السوسدي، محمد باطما ، وامبارك الشادلي، ومحمد حمادي. والمراني مولاي الشريف، المختصين في البحث، والنبش في التراث، مستلهمين من بحره الزَّاخِر، خالداتٍ، تخْدُم قضايا اجتماعية، وأخرى سياسية، لقيت تجاوبا كبيرا من قبل، “يا عجبا من طبايع الناس”- “مداحو” … وأخرى ذات طابع وطني، نذكر من بينها. ” بغيت بلادي”- “الجنود ” وغيرها كثير.

في هذه الورقة، ارتأينا، أن نبرز بعض تجليات تراث الملحون، في إبداع  مجموعة “لمشاهب” الأسطورية، كفرقة  تربعت، على عرش الأغنية  الغيوانية ، بكل اقتدار، لسنوات عديدة، قبل انقسام العقليات، وتباين افرادها، على مستوى الأحلام، و الطموحات،…. الغاية من ذلك ، تبيان حقيقة، ظلت غائبة، عن جمهور محبيها ، لأربعة عقود من الزمن.. المُغيبة عمدا،  من طرف أعضاء مؤسسين، بينهم ضاع  العمر، بعد المجد، في الصراع، النحيب، الفرقة، والشجن، نقدمها بين أيديكم اليوم، عشاق الأغنية المجموعاتية،  بالدليل القطعي ، والبرهان ، حجتنا الدامغة ، استقيناها من مصادر أصلية، لاَ من ادعاءات مزيفة، مغرضة، تنشد التعتيم، و التضليل، لا تضع وزناً، لثقافة الاعتراف، كشرط أساسي، من  أساسيات، اخلاقيات الفنان …  الكلمة البدء، نأخذها، من مداخلة ،  مقتضبة، تفضل  بها مؤسس الفرقة، المرحوم محمد البختي، ذات تصريح صحفي،  لإحدى قنوات التلفزة المغربية، قال فيه : ” … إن أغاني (لمشاهب )، كلها كانت، ذات مضمون سياسي محض، فنحن لم نقتبس، لا من تراث، ولا من عبد الرحمان المجذوب، ولا يْديك لا يْخَليك…”   معنى الخطاب يفيد، أن مسار الفرقة  الفني، حسب زعمه، وضيق رؤيته المعرفية، والفنية،  وليد،  ما تفقت به ، قريحة أفراد المجموعة المتميزين، كلمة، لحنا، وتوزيعا، وفي ذلك توجيه، لسهام نقده للاذع،، لمجموعات بعينها، و أخص بالذكر هنا، مجموعة  الغيوان،  وجيلالة، اللتان انفتحتا  باحترافية عالية ، على تراث فن الملحون، في ذلكم الوقت ، فمنحونا تحفا فنية، مازالت تشنف الأسماع  الى حدود الآن، وكأني بقوله هذا، يعْتَبِرُ الخطوة الجريئة هذه،  مبادرة مَعِيبة، تنم عن ضعف أصحابها، والتشكيك في قدراتهم الذاتية ، في انتاج درر فنية خالدة، ناسياً أو متناسياً، أن الاشتغال على تراثنا للامادي، يُعَدُّ خطوة محمودة، كان لها ما بعدها، مصالحة جيل بأكمله، مع  تراث بلده، كذا ربطه  بجذوره،  الضاربة في أعماق التاريخ، المكونة لصميم هويته.

ولتصحيح هذه الرؤية المغلوطة، واتباث تجليات تراث الملحون بالواضح، في ابداعات مجموعة “لمشاهب ” ، نتوقف بكم، في بداية ،عند قصيدة ملحونة تحت عنوان ” لَوْصِيَّة ” للوالي الصالح، أحمد الرِّفاعي، رحمة الله عليه، والتي استقت منها مجموعة ” لمشاهب ” بعضاً، من أبيات أغنيتها الرائعة، (صغى يا إنسان). دليلنا في ذلك:

أن شيخ الملحون، احمد الرفاعي، يقول في قصيده  :

تْعَالَى نْعِيدْ لِيكْ مَعْرِفَة بَفْصَالْهَا ** يَا صَاحَبْ لَعْقَلْ يَا عَارَفْ هَادْ الْقَوْلْ

مَعْرِفْةْ رْجَالْ لَخْيَـــــــارْ تْنَالْهَا **  رَاحَة وْبَسْطْ عَنْدْ حْــــــبِيبَكْ مَكْمُولْ

يَا قَارِي فَمْنَــــافَعْ لاَ تَسْتَهْزَاشْ ** أحْصِي عَلْمَكْ وْزِيدْ عَلْمْ لاَ تَـــدْرِيهْ

أتْعَلَّمْ فِي مْسَايَلْ مَا تَعـــْرَفْهَاشْ ** وَافْهَمْ فَحْوْ لَكْلاَمْ وَ شْرُوطْ مْعَانِـــيهْ

حَكْمَة مَنْ غِيرْ شِيخْ لاَ تَتْعَلَّمْهَاشْ ** ما يَدْخُلْ فالَعْقُولْ عَلمْ بْلاَ تَنْبـــِيهْ

فيما مجموعة  ” لمشاهب ”  تقول:

أصْغَى يا انسان  نْعيِدْ مَعْرِفَة بفْصَالهَا  * يا صاحَبْ لعْقَلْ يا عَارَفْ هَادْ الْقَوْلْ

معْرِفة خْيَارْ النَّــــــــــاسْ دِيمَا نَـــالْهَا * حِيتْ بَسْطَ الطَّمَّاع الَى جِيبَكْ مَكْمُولْ

إلَى قْرِيتِي فَمْنَــــــافْعَكْ لاَ تَسْتَهْزَاشْ * وَاحْصِي عَـــــلْمْ زِيدْ عَـــــلمْ لاَ تَدْرِيهْ

وَابْحَثْ فَمْسَــــايَلْ مَا تَعــــــْرَفْهـَاشْ * مَا يَدْخُلْشْ للَّعــــْقُولْ عِــــلْمْ بْلاَ تَنْبـــِيهْ…

كما انكبت  فرقة (لمشاهب) ، على نص، ملحوني آخر، موسوم بِ (قُولُو لْيامْنَة تَهْلِيلْ العثْمَاني)، لشيخ “لكريحة” محمد المصمودي، موظفة،  بعض أبياته  في أغنية (لله يا مداحو )

يقول شيخ الملحون، محمد المصمودي في قصيدته الملحونة :

أمير الغرام حرق احشايا وفنانـي ** شربني كيسان من ســـموم ابــلاه
حتى حرم قوتي والنوم اجفـــاني **  يا ناسي لا طبــــــيب فادنى بدواه
واللي هويتو يا وعدي ما يهواني  **  بدلني بالغـــــير لاحــــني موراه
قولو ليامنة تهليل العـــــــــثماني  **  رأفي بالمعـــشوق بيك شــرع الله

قولو لها يا ضي المـــاحــــــــي  ** من حـــــــــبها اخـــلاكي جــــاحو
نوَّحـْـــــــت ما نــــفع تنْـــواحي ** حتى اشفار عيـــني طــــــــــــــاحو
تارة تصيب عقــــــــلي صاحي ** تارة تهـــــــيج سمـــــــوم اجـــراحو
بحر الغرام تَّغلبَت أمـْـواتُو ** على قرْصَانِي قلَبْ سْفُون ** يا فْهِيمْ عْلاَهْ

فيما مجموعة (لمشاهب) تقول:

بالله يا مداحو ما رواحشي  وخــلاكي جــاحو
بكيت مادا تنواحي  حتى هدوب عينيا ســـاحو
تارة تصيب قلبي ساحي تارة يسيل دم جراحو
بالله يا مداحــــو بالله – بالله يا مـــــــداحو بالله.

ومن قصيدة ( لاَقِي يَا رَبِّي لاَقِي)، للسيد ابي عبد الله محمد ابن امسايب ،دفين مدينة تلمسان الجزائرية ، استقت  مجموعة  (لمشاهب) بعض أبيات، رائعتها (ألْطَفْ يَا لَطِيفْ).

يقول شيخ الملحون، محمد ابن امسايب، في قصيده :

هَــاجَــتْ بَـالْفــــــَـكْــرْ اشْــوَاقِــي

وَ تْـهَـوَّلْ بَحْرِي مَـاء وُ رِيـحْ تْقَلْقُو

 

مَــــــنْ كَــثْـرَتْ امْــوَاجْ احْــدَاقِــي

رَانِـي خَـايَفْ فِيهُـمْ جْوَارْحِي يْغَرْقُو

 

وَاحَـدْ قَـلْبُه مَـحْرُوقْ ** نَـارْ وَجْدُه  بْرُوقْ

عَاشَـقْ وَ عْشَقْ مَعْشُوقْ

عَشْقْ عَشْقُه عْشِيقْ

الــنَّــاسْ سْــفِــيـهْ وُ تَــاقِــي

عَـاذْرِيـنْ الْـعَـشْـقْ قْلُوبْـهُـمْ صَـدّْقُوا

لاَقِي يَا رَبِّي لاَقِي

فيما مجموعة (لمشاهب) تقول في اغنيتها (الطف يا لاطيف)

هاجت بالفكر شواقي بحر و ماء و ريح تقلقو
من كتر مواج حداقي خايف فيهم جــوارحي

الســـــــــــلامــــــــــة يـــــــغـــــرقــــــــو
لاقــــي يا ربي لاقي المــحبة  بالـــصديـــق
واحد فكرو مسروق واحـد شــاد بالعـــــتيق
واحد قــلبو محروق واحد شــاب الحـــريق
و شي فـالناس تاقي وشـي ما بغى يـفـــــيق
واللي تقول يـــــليق هذاك عظمو مشـــقوق.

ومن روائع فن الملحون، في النقد الاجتماعي،  ندرج قصيدة (سبحان الله في طبايع دالناس) للشيخ محمد بن الصغير الصويري، وظفت  مجموعة  (لمشاهب) بعض من شذراتها،  في أغنية (يا عجبا فطبايع الناس)

يقول شيخ (لكريحة) في قصيده:

سبحان الله فطبايع دالناس ** ما ابقى من هاج غرامو

والنـــــــــــاس أحـــــوال ** كل واحد في حالة حالو

فيما مجموعة ( لمشاهب) تقول:

يَا عَجَبا مَنْ طبَايَع النَّاسْ

مَا بْقى مَنْ لاَ هَاجْ فحَالُو

وَ النَّاسْ أحْوَالْ

وكُلْ وَاحَدْ فِي حاَلةْ حَالو

كل واحَدْ تلقاهْ تيلاغي بَلغَاه

كلْ وَاحَدْ تلقَاهْ عنْدُو لْسَانُو يَندَهْ

حَسَّنْ اخْلاقْ عْبادَكْ يَا إلاهْ

حسبي هنا من خلال هذه الورقة الثوثيقية، القول، أن مجموعة لمشاهب كغيرها، من المجموعات الغنائية الأخرى، قد  ساهمت بقدر كبير، في إحياء تراثنا للامادي ، بكلمات متميزة، وآلات ومقامات موسيقية عريقة، نهلت من كل أنواع، الموسيقى التراثية الوطنية ” كالملحون – كناوة – وعيساوة – وأحيدوس  ” لتقدم لنا فنا ملتزما، تفاعل مع المرحلة، واستأثر باهتمام قاعدة جماهيرية واسعة، وهو ما منحها عزاً، شرفاً، وتقديرا ، من لذن، كل المغاربة، داخل الوطن ، وخارجه .. ليبقى سؤالنا المشروع،  مفتوحا على مصراعيه، ما جدوى التستر، عن هذا الأمر، طوال  هذه المدة، وعدم الإفصاح عنه ، والإقرار  به، من طرف المؤسسين، العارفين بحقائق الأمور؟  وهُمُ الذين تمت استضافتهم، مرات، ومرات، في عديد من اللقاءات الصحافية، ليتم، النكوص الى زمن التأسيس والاكتفاء، بالحديث، عن مسار الفرقة  التاريخي ، وبطولات الحي المحمدي، اللذان أضحيا، أسطوانة ، مشروخة، مملة، ومستهلكة ، لم يعد يطيق سماعها أحد.