“أردف قائلا وقد بدا الأسف علي وجهه: الظاهر أنك لا تدرك مكانة اللغة الجديدة يا ونستون. بل إن اللغة القديمة تظل مسيطرة على تفكيرك حتي عندما تكتب اللغة الجديدة. إنني أقرأ الفقرات التي تكتبها من حين لآخر في صحيفة التايمز. صحيح أنها جيدة بعض الشيء. أنت ميال لاستخدام اللغة القديمة رغم كل ما فيها ممن غموض والتباس ومعان فرعية لا فائدة منها. أنت لا تدرك جمال تدمير الكلمات!”
هكذا قال أحد أبطال رواية جورج أورويل 1984، ويبدو أن فكرة الجديد والقديم لا تنحصر على اللغة الأدبية فحسب وإنما هي فكرة آخذة في التناسل عبر الأجيال، إذ يحدد كل جيل ما يراه قديما، متجاوزا ومستهلكا، ويسعى نحو ما هو جديد وفعال ودارج. ففستان شادية أو سعاد حسني “الأسبرو” (Robe Aspro) الذي كان ذات عهد دليل للأناقة، يمكن أن يشكل اليوم لمرتديته في وقتنا هذا دليلا على ذوقها “القديم”، علما بأن صيحات الموضة عالميا تسير دوما في اتجاه الدائرة أي هناك دوما عودة لما سبق. لماذا أقول كل هذا؟ لأن عصرنا الحالي تجاوز فكرة القديم والجديد إلى شيء أكثر خطورة في تقديري، مع تحفظ كبير على كلمة قديم والتي ليست بالضرورة تعني شيئا لا فائدة ولا طائل من ورائه. فكلمة القديم تفيد ما مضت عليه السنوات لكن لا يعني أبدا أنه بالضرورة غير صالح أو غير مناسب.
لا يخلو عصرنا الحالي من هذه التصنيفات. ومن “جديد” ثورة التكنولوجيا أن أصابتنا بداء الميم والكاف M وK (الميم ترمز لملايين المشاهدات والكاف لآلاف المشاهدات). هذان الحرفان اللذان أصبحا المعيار الوحيد والأساسي لقياس نجاح الأعمال الفنية والثقافية من عدمها. مبدئيا، لسنا ضد الفكرة لكننا نتساءل. وأسمع في الخلف، صوتا من بعيد يقول معارضا “نعم”، ألا تعتقدين أن السيدة أم كلثوم مثلا ما كانت لتشعر بالرضى لو أنها دخلت المسرح ووجدت أمامها عددا قليلا من الجمهور وصالة العرض شبه فارغة؟ أما كانت لترمي بمنديلها أرضا وتوبخ القصبجي رغم أن لا ذنب له في ما حدث؟
شخصيا، أْعتقد أن الست كما يسمونها بمصر وبلهجة البلد تسلطن الكراسي الفارغة قبل أن تمتلئ بجلوس أحياء. هنا، يظهر حب ما نقوم به وشغفنا الكبير به ونضالنا الأكبر من أجله. فكم من موهبة تناضل في الظل، كم من صوت يصدح أمام الفراغ لا أحد يسمع صوته الشجي. كم من مشهد قوي ومؤثر صورته مرآة صالون المنزل لا كاميرات الإخراج. كم من عزف حالم، لم يسمعه سوى طائر على غصن شجرة. وكم من موهبة جمهورها قليل لكنها موهبة حقيقية عن جدارة واستحقاق.
نعود للميم والكاف. موقفي من لغة الأرقام هذه هو أنها تحرض على لعبة المقارنات الفارغة، ما أعرفه أن من أهم عوامل النجاح هو مقارنة الذات مع نفسها لا مع غيرها، أي التركيز على ما أقوم به لا ما يقوم به غيري إلا من باب الاطلاع الإيجابي والمفيد كي أقدم الأفضل.
موقفي من الحرفين، هو أنهما يخلقان نوعا من الاحراج لأصحاب الأعمال الفنية الذين يعرضون أعمالهم من أغان وغيرها للجمهور، هذا الأخير الذي بات قبل أن يستمع ويتذوق، بات رده الفعلي الأول هو رؤية عدد المشاهدات. فهل يشكل حقا عدد المشاهدات والتعليقات والمشاركات مقياسا حقيقيا للنجاح؟ هل فيديو لنملة راقصة -(مع احترامي الكبير والشديد لهذا المخلوق المجتهد)- يحقق نسبا عالية من ملايين المشاهدات دليل على جودة محتوى الفيديو أو أهميته؟ ثم ماذا عن المحتوى الهادف الذي في العادة عليه أن يحقق غاية من الغايات الموالية:
التثقيف، التوعية، الترفيه، التحسيس…
موقفي من الحرفين هو مساهمتهما في جعل التقييم رقميا لا يراعي المضمون ولا جودته ولا الهدف منه ولا وقعه على المشاهد. هذا الأخير الذي صار على جوعه متعطشا للسرعة في كل شيء، نفذ صبره، وفقد سعة صدره، وأصبح يبحث عما قل وليس ما دل.
موقفي من الحرفين أن الأرقام لا تعكس بالضرورة متابعين حقيقيين. وحتى إن كانوا كذلك، فمشاهدة جمع من الناس لعمل ما دون تداوله من خلال قراءات نقدية رصينة من متخصصين في المجال، يظل مجرد لفت للانتباه وليس نجاحا. النجاح هو أن يردد حفيدي ما تغنى به أبي، هو أن يصنع العمل لنفسه مكانا خالدا في الوجدان والذاكرة ويصبح العمل الفني/ الأدبي تاريخا لا ينسى. وأنا أكتب هذا المقال يحضر من وحي ذاكرة الطفولة المسلسل المغربي من دار لدار، أٌغنية القمر الأحمر، أّهواك، يا الناسيني، وأيضا أغنية المحكمة، قولي أحبك، ركبت على عين زورة… طبعا ذكرت هذا ليس لأفرض ذوقي على الناس، إنما لأستشهد بذاكرة طفلة لا زالت حاضرة بذهن امرأة اليوم…لأقول لا يصح إلا الصحيح، ولا يفلح سحر حرفين دوما حيث أتى.
لماذا قلت كل هذا؟ حسنا، “لأن الأفكار لا تتوقف، حتى في لحظات الاسترخاء عن التداعي” (ميلان كونديرا/ رواية المزحة).
تعليقات الزوار
تحليل عقلاني ومنطقي ينم عن تشبع روحي وجداني بما هو تجاوزا( قديم) ورفض جزئي لما هو جديد. K /M لاتعني النجاح الباهر. العالم الافتراضي عالم مبهم....