صليت العصر كباقي الناس في هذا البلد من إسلاميين وعلمانيين ويمينيين ويساريين وليبراليين واشتراكيين ومؤمنين وملحدين، فكلهم “مسلمون” يصلون إما لله وإما للناس، والله وحده المطلع على القلوب، وفي القلوب كما الجنة “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”.
تمددت قليلا، وراودتني الكثير من أحلام اليقظة كما العادة، فكرت أن أقرأ أو أكتب أو أزور الأقارب أو بعض الأصحاب، لكن الشيطان أو النفس أو هما معا همس لي:
- لم لا تخرج لتتسكع قليلا؟
استحسنت الفكرة فلم ألعن الشيطان، ولم أتعوذ من همزات نفسي، فركبت هوايَ مستعينا بالشيطان الرجيم، وقمت ألبس ما جد من ثيابي: سروال دجين، قميص صيفي، حذاء رياضي لشركة معروفة “اصطدته” من “الجوطية” والثمن لا يهمكم. تعمدت فتح زِرَّيْن ليظهر شعر صدري كما يفعل الشباب في زمن التصريح بالممتلكات، مشطت شعر رأسي بعناية، ومزجت شيئا من “جيل” مع شيء من الماء ليبدو مسرحا جميلا مثيرا، وتبدو فروة الرأس مغرية، تعطرت بأطيب ما لدي.. طويت مائتي درهم على ست ووضعتها في الجيب الصغير وانطلقت…
ما أن تجاوزت منطقة “ممنوع الانحراف” أقصد الحي والأزقة القريبة حيث يعرفك الجيران وأصحاب الدكاكين وزملاء الدراسة، حتى كشرت عن أنيابي معولا على العصيان فلا طاعة اليوم، وسأستثمر مهاراتي في “الصيد” للحصول على “فريسة” يليق أن أفتخر بها أمام الأصدقاء، وأن تضاف إلى فتوحاتي النسائية القليلة.
من حسن الصدف أنني وجدت أمامي فتاتين فاتنتين تسيران الهوينا، فقررت أن أسير خلفهما “الهوينا” و”لا زربة على صلاح“.
وجدتني في حيرة كبيرة بين أن أفتتن بالشقراء الساحرة، بغض النظر إن كان شعرها أشقر فعلا أم مجرد صباغة، أو أن أفتتن بسوداء الشعر، والويل لي من سوداء العينين سوداء الشعر، ورأس ثالث يهمس لي اخترهما معا ففي الحرام لا يمنع التعدد، ولا يحد في الأربعة، ولن تقوم القيامة ضدك، ولن تعترض جمعية حقوقية، ولن تتحدث عن القناة الثانية. لا تختر يا من احتار. أنت قررت أن تطلق العنان لهواك، وهواك يريدهما معا الشقراء اليوم، وغدا البيضاء، وبعده السمراء… لكنني تذكرت أنني عندما كنت في الثانوية صرحت لزملاء القسم على “كرسي الصراحة” أنني أعشق سوداء الشعر، فعرفوا بعدها أنني أعشق “جميلة”. ولا أدري هل أعجبتني جميلة لأن شعرها أسود، أم يعجبني الشعر الأسود لأنه شعر جميلة.
حسمت الخيار، ولن أشتت تفكيري.. سأطارد سوداء الشعر، تلك الممشوقة القد، وسأستغل أول فرصة تنفصل عنها صديقتها لأحدثها مباشرة، وسأكون لبقا، وقد أكتفي بأخذ رقم هاتفها أو اسمها في الفيسبوك، وما لا يدرك اليوم قد يدرك غدا. سأكذب وأدعي أنني أطاردها منذ شهور، وكل يوم أقف كعمود الكهرباء منتظرا مرورَها، وإن لم تمر لا آكل ولا اشرب ولا أنام، وإن نمت حلمت بأنني رأيتها تبتسم لي وأبتسم لها، ونسيمات ريح تداعب خصلاتها، وتصيبني شعرة في عيني وتلتصق أخرى بشعري، وستجدها أختي الصغيرة وتشاغبني وتكاد تصيح: “أمي أمي.. هاذا المشاغب الذي يحذرني من صداقة التلاميذ عنده صديقة، فيه رائحة عطر نسائي وهذه شعرة سوداء طويلة”. أغلق فمها بإحكام وأعدها بهدية جديدة فتسكت المسكينة، واقتلع من شعرها شعرة وأخلطها بالشعرة الأخرى فنغوص في مزاح أخوي جميل حتى تنسى أصل الحكاية.
تمشيان بغنج، تتحدثان، تضحكان.. ماذا تقولان؟ وفيما تتحدثان؟ وما يضحكهما؟ ليتها تلتفت لأرى وجهها كاملا، لا أتخيله إلا جميلا كمظهرها الخارجي، هكذا رسمته مستديرا فاتنا كقمر، على شفاهها أحمر خفيف كما أشتهي، وفي العينين سحر أغنية “بلاش تبوسني فعينيا”…
قطعنا مسافة لا يستهان بها، وقطعت مخيلتي أشواطا طويلة في رسم الحكاية، واحتقرتُ مائتي درهم التي في جيبي. ماذا يمكن أن أفعل بها أمام جميلة كهاته؟ واستدركت إنها كافية لتناول عصير في أفخم مقهى في المدينة وشراء وردة هدية للوردة، وإن فشلت الخطة فمائتي درهم تعني الكثير من “نصف خبزة بالطون والحرور”، ومن “كأس ريب وكيكة”، ومن “إسفنج وشاي”…
قلبي يرتعش، لقد وقفت، وانطلقت الشقراءُ وحدها صوب الدكان.. ها أنا سأنفرد بصاحبة الشعر الأسود. ماذا سأقول لها وأين أبدأ “مساء الخير، السلام، أهلا الزين، كلك زبدة، مانشوفوكش ألغزال، يا مشية الحمامة فالرياض…” تاهت العبارات المحفوظة. علي أن أقترب لا تراجع، كن رجلا يا صاحبي.. المرأة أرنب خواف غبي لا يجيد الهرب، يتصنع الذكاء ثم سرعان من يصدق الأكاذيب، يحسب كل الفواكه جزرا، وبسرعة يذبح ويسلخ، وعندما يستيقظ من حلم جميل تحول كابوسا مروعا يعد نفسه ألا يصدق ذئبا ثم يأتي ذئب -كما سأفعل اليوم مثلا- فيقنعها أنه مغاير لمن عَرَفَتْ، فَتُصِرُّ “إن الرجال ذئاب يتشابهون”. “لا يتشابهون أنا مختلف”… تقتنع ثم تكتشف أنهم فعلا يتشابهون فتعد نفسها مرة أخرى…
أين أنا؟ لقد غصت في أحلام اليقظة وأنا أحاول الاختباء وراء علامة “قف”، لكن صوت الشقراء أمام الدكان أيقظني. سمعتها تخاطب صاحبة الشعر الأسود بغنج مائع:
- نَوْفااال ناخذ ليك معايا “glace” ؟