-1-
عبد الغني رجل فقير يشتغل عند رجل غني. لم يعرف حقيقةً هل صاحب الفيلا هو الغني أم زوجته الحاجَّة، لكنه يعلم أن الحاجّة تتحدث كثيرا، وهي صاحبة الأمر والنهي، بينما لا يكاد يُسمع صوت الحاج إلا أن يقول “d’accord“.
سعد عبد الغني كثيرا عندما وجد نفسه يعرف كلمة بالفرنسية لذلك أصبح يستعملها كثيرا كلما طلبت منه الحاجّة شيئا، وحتى مع أصدقائه كلما عاد إلى قريته لذلك لقبوه “d’accord“.
لا أذكر بالضبط ما المناسبة التي جمعتني بهذا الشاب، وفي جميع الحالات إما زفاف أحدهم أو موت أحدهم، لكنني سعدت كثيرا بلقائه يتحدث بشكل ممتع، ويربط ملامحه بحديثه الساخر ولكنة متلعثمة في لسانه يصبح اللقاء أمتع.. ولأنني إلى حد ما أحب المسامرة والسخرية فقد أمعنت في استفزازه ليواصل كلامه دون توقف وبعفوية مثيرة.
أسأله مثلا “أنت شاب تبدو صغيرا ولكنك ملأت بسرعة أوراق دفتر الحالة المدنية، طلقت امرأة بعد عام واحد من الزواج، وها أنت تنجب أربعة أولاد في وقت قياسي؟”
يضحك ويعقب: “لا يزال هناك متسع من أوراق في دفتر الحالة المدنية. زوجتي الأولى غريبة الأطوار تتصارع كثيرا مع أمي، وأمي لا أريدها أن تموت بالسكري والضغط بسبب امرأة.
تزوجت صغيرا لأنني أعمل في المدينة والنساء فاتنات هناك، وأنا أكاد أجن كلما رأيت واحدة، وحتى لا أفعلها في الحرام قلت في الحلال أفضل، لكن التجربة فشلت فجربت الحرام، وفي كل مرة أعاشر واحدة أشعر بالندم والغرابة معا؛ كيف أشتري كيلوغرام لحم بسبعين درهما وأشتري امرأة كاملة بعشرين درهما؟ لعنت الشيطان وشتمت هؤلاء النساء ولعنت الظروف التي قادتهن إلى عمل رخيص بثمن بخس، ثم قررت الزواج مرة ثانية..
أما الأولاد فيأتون هكذا (يضحك).. لا يصح أن نستعمل موانع الحمل حتى نتأكد من أن الأمور تسير بسلام.. أنجبنا الولد الأول لكن زوجتي أصرت على أن تنجب الثاني لأن أمها تحذرها من الرجال.. في عرفهن عقد الزواج لا يصح إلا بعد إنجاب طفلين. أما الآخران فقد كنا نبحث عن أنثى نسميها خديجة على اسم جدتي لكن في كل مرة يخرج لنا “بوراس” آخر. ثم في النهاية كل يولد برزقه والدولة لا تعطيني شيئا. العاطي الله.
حضر العشاء فسكتَ عبد الغني وسكتتُ، وتسابقت الأيدي لملء البطون..
–2–
أشبع عبد الغني بطنه وردد بصوت مرتفع “الحمد لله” وهو يمرر يده على ذقنه، جيء بصحن من البطيخ الأخضر والحقيقة أنه أحمر مما اشتهرت به المنطقة وشكا الناس ضرره على الفرشة المائية، فقد مات كثير من النخيل وانقرضت أنواع من التمور أو كادت، وهاجر الشباب إلى المدينة وبقيت الأراضي الفلاحية قاحلة باستثناء ضيعات البطيخ لمستثمرين من مناطق مختلفة… بلل الجميع ذقنه بالدلاح، وجدد عبد الغني حمده على نعم الله الوفيرة ومنها هذه الفاكهة الصيفية اللذيذة.
أحببت أن يواصل عبد الغني حديثه، فذكرته بالعجوز التي يحرس بيتها الفاخر، واستفسرته لم لم يبق حارسا ولم يتوجه كأكثر شبان البلدة إلى البناء…؟ ولمحت له إن كانت له قصة مع العجوز لكنه قاطعني “الله يستر العيوب، العجوز لعجوزها يتناطحان كعنزين، وأنا لي أجري الشهري لا أطلب غيره، وكم مرة لمحت بشيء لكنني تغابيت كشخص لا يفهم في شيء آخر غير الحراسة”.
سأله جليس إن كانت الحراسة مهنة جيدة، فكان رد عبد الغني صارما “لعن الله الحراسة، وكل مهن الوقوف وانتظار أوامر الآخرين” وأقسم بمصحف إمامنا في المسجد أنه وجد راحته في مهنة بناء يتعب نهارا وفي الليل يغط في نوم عميق ولو مفترشا شوكا ومتكئا على صخر وبرغوث البراريك يمتص من دمائه، وتحدى أي غني أن يغرق في النوم مثله ولو افترش الحرير وتغطى به… ” وعندما أمعن في ذم مهنة الحراسة قاطعته: “هل سبب كرهك لهذه المهنة أنك عانيت من الفراغ وانتظار الأوامر ورعاية كلب العجوزين؟” ضحك عبد الغني وأعاد “كلب..” ثم أضاف “اطمئن لم يكن عندهما كلب، وماذا سيفعلان بكلبين، أنا في الكفاية !؟”
ضحك وضحكنا جميعا… ثم وقف مودعا.