إن أعذب كلمة تأتي على لساني هي كلمة أبي، فكلما أرددها يهتز لها كياني، ويخشع لها فؤادي، خاصة عندما أذكر قول الله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسناً)، كتبت عن أبي وجعلت له حصة في صفحات ذكرياتي، وأهديته إبداعاتي لأنه رجل عظيم يستحق كل الاحترام والتقدير، أبي محمد بن بفضيل البشري، من المعمرين الذين عاشوا سنوات كلها جد واجتهاد، صبر وتضحية، قررت أن أكتب هذه المقالة عن هذا الرجل العظيم ليس لكونه أبي فحسب، ولكن كتبتها لأنه محمد البشري الإنسان، ليس له أعداء يحبه الكبير والصغير، يحترمه الناس، فمن يكون هذا الإنسان؟ وكيف عاش حياته؟ محمد بن بفضيل وزاوية البركة أيه علاقة؟ محمد بن بفضيل والنَّاس الحب والاحترام إلى أين؟
١- محمد بن بفضيل البشري في سطور: اللّب وليس القشور:
اختلف في تاريخ ولادته، فحسب الوثائق الرسمية يذكر أنه من مواليد 1925، لكن حسب ما يذكره ليس هذا هو تاريخ ولادته الحقيقي، فابن بفضيل رحمه الله يذكر الفترة التي دخلت فيها الحماية للمغرب، فقد ذكر لي أنه يحتفظ بمعلومات عن أول نصراني (يقصد به المستعمر) دخل لمدينة زاكورة.
ولد الحاج محمد على سبعة أشهر، وهو الولد البكر لأبويه، كان يرافق أبيه في كل مكان، وكان يساعده في أعماله وخاصة الفلاحة.
محمد البشري رجل عصامي، ساعدته الظروف العصيبة التي مرّ بها أن يكون رجلا يصبر على المعاناة خاصة وأن منطقة زاكورة مهمشة وفقيرة.
الحاج محمد لم يسبق له أن تلقى تعليما حكوميا ولا تعليما عتيقا، ومع ذلك عندما يتكلم معه فكأنك تخاطب رجلا مثقفا يعلم عن تاريخ منطقة درعة ما لا يعلمه أهل التاريخ.
توفي رحمه الله يوم عرفة ٩ ذي الحجة ١٤٣٧ بمدينة مراكش، بعد أسبوع من المعاناة مع المرض.
٢- محمد البشري الملقب ب(خويا) والنَّاس:
من يذهب إلى مدينة زاكورة بالتحديد زاوية البركة، ويسأل عن محمد بن بفضيل سيجد أن هذا الرجل من أعظم رجال هذه المنطقة خلقا وكرما، ليس في قلبه حقد ولا كراهية لأحد، يناديه كل أهل المنطقة ب(خويا)، من يجلس في مجلسه لا يعرف الملل والكلل، يبسط في كلمه مع كل الناس، ويسرد الحكم والأمثال وأقوال المجدوب، وَمِمَّا يتميز به حبه للناس، يعيش حالة الفطرة، يكرم ابن السبيل، ويعود المريض، ولا يبخل بزيارة كل معارفه وأهل عائلته، وكان دئما يقول: (الدم الدم)، ففي هذه الكلمة يختزل حبه لأقاربه، ما إن يسمع بوجود أحد من ذويه في مكان ما لا يفوت فرصة زيارته، فحرصه على صلة رحمه أطالت في عمره، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينسأ له في عمره فليصل رحمه.
وكان رحمه الله عند كل يوم جمعة يتطهر ويتطيب ويذهب لزيارة والديه بالمقبرة ويترحم عليهم و يعطي المساكين الصدقة، وكان يقول كلما اشتقت لوالدي أتصدق عليهم بما تيسر لي، كما يزور خلال هذا اليوم أقاربه ويطمئن على أحوال المريض منهم، ويفرح لأفراحهم ويحزن لمآسيهم.
فمن يتأمل في شخصيته يجد أن محمد بن بفضيل ليس حكرا على آل البشري فقط، فهو لكل الناس بمختلف أصنافهم بزاكورة ( ضراوة، الشلوح، المرابطين، الناصريين، مسّوفا، عريب، الروحا، أيت عطا…)، فعلاقته بالآخرين تمتاز بالصدق والحب، ولهذا يحبه كل الناس ويحترمونه ويقدرونه.
٣- محمد بن فضيل البشري: ذكراة زاكورة:
إن الجالس مع محمد البشري رحمه الله سيجد في حديثه سلسلة من الأحداث التي مر بها المغرب ومنطقة زاكورة على وجه الخصوص، فيذكر من الأحداث أدقها منذ كانت الحماية، وَمِمَّا يذكر أن أول مستعمر فرنسي دخل لمدينة زاكورة يسمى بسليمان، جاء متخفياً وسمى نفسه بذلك الإسم حتى يصرف نظر الناس عنه ولا يهتموا بأمره، فقد جاء لدراسة الوضع بالمنطقة لتسهيل التحكم في الساكنة، وممن تولوا الحكم بمنطقة زاكورة القبطان (روك) زوج المسماة بالشريفة مقر سكناه بروضة الحجاج (سيدي الحاج الحنفي)، وحكم كذلك الكومندار الفرسي (جوان) بمنطقة زاكورة وكان يهتم بسكان المنطقة، ويقضي حاجياتهم ويقدم المساعدة لمحتاجيهم، ويشجع طلبة العلم، ويوظف المجتهدين منهم بالإدارة المغربية التابعة للإستعمار مما جعله يكسب حب الساكنة.
ويذكر رحمه الله أن مقر عمالة زاكورة الحالي هو المقر الإداري لسلطات الإستعمار، كانت توجد به كل المصالح الإدارية من محكمة، وسجن وغير ذلك، وقال رحمه الله أن سلطة القاضي تجمع في المسمى (بالخليفة) ويكون مغربيا، وشخصا آخر فرنسيا يمثل الاستعمار يسمى (بالفسيان)، مهمتهم هي الفصل بين الناس وحل النزاعات وإصدار العقوبات على مستحقيها، ومن أدوار الخليفة كذلك تقديم التقارير اليومية لإدارة الاستعمار عن الأوضاع اليومية بالمنطقة.
كان لدار الباشا التي تسمى اليوم (بالخيرية) دورا مهما في تسيير شؤون المنطقة، حيث أمر الگلاوي ببنائها لتكون مقراً رئيسيا له، ويذكر محمد البشري رحمه الله أنه اشتغل فيها عددا من الأيام تطبيقا لما يعرف (بحدْ الصايم) حيث يشتغل عن كل أسرة فرد واحد بالمجان نيابة عن الأسرة.
ويذكر أيضا أن سكان المنطقة عرفوا خلال فترة الاستعمار مختلف أشكال العبودية، ففقراء المنطقة كانوا في خدمة طبقة الأسياد المتمثلين في المستعمر وعيونه من المغاربة، فمثلا ما يسمى بالخليفة يخدمه الفقراء بالمجان ولا يمكن لأي أحد منهم أن يعترض على أوامره، فمن أبدى اعتراضه زُج به في السجن لينال العقاب الشديد.
وكان لليهود دور كبير في تاريخ المنطقة حيث كانوا يستقرون ببعض المناطق مثل منطقة أمزروا، العروميات، المنصورية، لكتاوة، وكانوا يقومون ببعض المهام كجمع الضرائب، وكان المارة يدفعون المال لليهود من أجل المرور من بعض الطرق التي يحتكرونها، وذكر محمد البشري رحمه الله أن الأشغال التي عرف بها اليهود بالمنطقة هي التجارة فأغلب أنشطتهم الاقتصادية تتركز بالملاح بمنطقة أمزروا.
كما يذكر أنه حضر ما يسمى بعام (الروز)، حيث شهدت المنطقة والمغاربة عموما المجاعة، وكثرة الأوبئة، والأمراض الخطيرة، وذكر أن حالات الوفاة ارتفعت بشكل كبير في ذلك الوقت، لدرجة أن بعض الناس أكلوا أوراق الأشجار الذابلة. واقتصروا في طعامهم على أكل الروز فقط. حتى سميت هذه السنة بعام الروز.
محمد البشري يعتبر ذاكرة زاكورة، لكونه يعرف المنطقة بتفاصيلها الدقيقة، كما يعرف تاريخ الأنساب بها.
٤- محمد البشري وأنشطته بمنطقة زاكورة:
كان رحمه الله رجلا بسيطا، عصاميا، يأكل من عرق جبينه، يشتغل في مجال الفلاحة، فمن يذهب إلى حقول زاوية البركة سيجد بعض أثره من أشجار النخيل، و أشجار الرمان، وبعض أنواع الأشجار الأخرى، فجنان (أمغا) شاهد بأشجاره التي تعد بالمئات عليه، و يذكر أنه تعلم فنون الفلاحة منذ صغره من أبيه بفضيل رحمة الله عليهم جميعا، فكثيرة هي الحقول التى غرس فيها الأشجار، كما شارك في حفر مجموعة من الآبار، وبناء مجموعة من المنشأت العمومية تطوعا مثل دار الباشا أو دار الطالب (الخيرية) حاليا، وبعض المساجد بالمنطقة كمسجد زاوية البركة.
محمد البشري رغم تغير الظروف لم يغير طبعه ولا عاداته، عاش حياته بسيطا ومات بسيطا، كان رجلا قنوعا زاهدا في الدنيا وشهواتها لا يهتم بمظاهر الدنيا الفانية، يركز في حياته على المال الحلال، لهذا فقد كانت كل مصادر قوته من مجهوده الشخصي، عاش حياته بين الأشجار والحقول، وكان يذكر رحمه الله أنه يذهب لسقي الحقول ليلا في الأيام الباردة (الليالي) دون أن يأخذ الوسائل الوقائية من البرد (كالبوط) مثلا.
فمحمد البشري رحمه الله عاش شريفا لم يشتغل في الحرام حتى انتقل إلى رحمة الله.
ومن الأمور الخاصة التي لا يعرفها بعض الناس عنه أنه كان ماهرا في العزف على( الوطار)، ووقعت له قصة معه، قال رحمه الله: كنت أيام الصبى أعزف رفقة مجموعة من الأصدقاء على (الوطار) فجاء المسمى ب(لَبِّينْ) وهو رجل من العسكر فأخذه وأصدقائه إلى السجن، بدعوى أنهم يتهربون من مساعدة الدولة.
٥- الأيام الأخيرة من حياته رحمه الله:
فرغم كبر سنه وتدهور حالته الصحية لم يمنعه ذلك من المحافظة على صلاته، وحرصه على صيام شهر رمضان وصيام التطوع، ولم يفارق سبحته ذاكرا الله عزوجل، ولم يحقد أو يحسد أحدا في حياته، بل يحب كل الناس، ففي مرض موته سأله أحد أولاده، هل لك دين أدفعه عنك فقال له: ليس علي أي دين (بيني وبين الناس غير الخير والإحسان)، عاش أيامه الأخيرة بدوار السويهلة بمدينة مراكش حتى توفاه الله يوم الأحد وقد صادف هذا اليوم يوم عرفة، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى ربها قبل صلاة الصبح بدقائق معدودة، وكان قبل وفاته يذكر اسم الله ياربي ياربي وغير ذلك من الأذكار وكان يقول (أمي انتظريني إني قادم إليك) إلى أن دخلت إحدى بناته عليه فوجدته يلفظ أنفاسه الأخيرة، فاللهم ارحمه وأكرم نزله ووسع مدخله واجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجعل الجنة مثواه.
عود على بدئ:
لقد كان لشخصية أبي محمد البشري رحمه الله دور كبير في صقل جزء من شخصيتي لذلك أحببته بغض النظر عن كونه أبي، فقد كان أنموذجا في التربية على مجموعة من الصفات الجميلة كالكرم وحب الخير للناس…فاللهم ارحمه واجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أمين.