خارج الحدود

قضى 38 عاما بسجون الاحتلال.. استشهاد أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين قبل عام من موعد تحرره

استشهد الأسير الفلسطيني وليد دقة (62 عاما)، اليوم الأحد، بعد 38 سنة في سجون إسرائيل، متأثرا بإصابته بالسرطان.

وأعلنت هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير، في بيان مقتضب، عن استشهاد دقة (62 عاما) داخل مستشفى “آساف هروفيه” جراء سياسة الإهمال الطبي المتعمد و”القتل البطيء التي تتبعها إدارة سجون الاحتلال بحق الأسرى المرضى.

وتدهور الوضع الصحي للأسير دقة منذ مارس من العام الماضي، أي قبل 3 أشهر من موعد تحرره السابق، نتيجة إصابته بالتهاب رئوي حاد، وقصور كلوي حاد، إلى جانب إصابته بسرطان التليف النقوي في 18 دجنبر عام 2022، وهو سرطان نادر يصيب نخاع العظم.

وكانت المحكمة الاسرائيلية العليا قد رفضت في نوفمبر الماضي الإفراج عن دقة رغم تدهور حالته الصحية.

وقالت صحيفة إسرائيل اليوم إن دقة مسجون منذ 1986، بتهمة اختطاف وقتل جندي إسرائيلي في 1984، وهو أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

وينحدر دقة من مدينة باقة الغربية داخل أراضي 1948 (الداخل الفلسطيني).

وسبق أن اتهمت منظمات حقوقية فلسطينية، بينها هيئة الأسرى والمحررين (رسمية)، ونادي الأسير الفلسطيني، إسرائيل بإهمال علاج دقة، ما أدى إلى تفاقم وضعه الصحي.

ردود الفعل

نعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” الشهيد دقة، وقالت في بيان إن سياسة الإهمال والتسويف والمماطلة التي مارستها سلطات الاحتلال بحق الأسير دقة بالرغم من تدهور وضعه الصحي؛ تعد جريمة مكتملة الأركان.

وقالت حركة المقاومة الإسلامية “حماس”: “نزف الأسير الشهيد القائد وليد دقة ونجدد عهدنا مع الأسرى حتى نيلهم الحرية”، وأضافت: “جرائم (وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار) بن غفير في حق الأسرى محاولة لإفشال جهود الوسطاء ووضع العراقيل أمامهم”.

وتحتجز إسرائيل في سجونها ما لا يقل عن 9 آلاف و100 أسير فلسطيني، وزادت أوضاعهم سوءا منذ أن بدأت حربا مدمرة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، وفق هذه المنظمات.

وخلفت الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ 6 أشهر أكثر من 100 ألف قتيل وجريح، معظمهم أطفال ونساء، ودمارا هائلا ومجاعة أودت بحياة أطفال ومسنين، حسب بيانات فلسطينية وأممية.

وتواصل إسرائيل الحرب رغم صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار فورا، وكذلك رغم مثولها لأول مرة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب “إبادة جماعية”.

حياة الاعتقال

اعتقل وليد في مارس 1986، وكان وقتئذ شابا في سن الـ25 عاما، وذكر أنه تعرّض لتحقيق عسكري قاس، تعرض خلاله للمنع من النوم والتجويع والتعذيب الجسدي والنفسي. وحكم عليه بالسجن المؤبد (مدى الحياة) بتهمة خطف وقتل جندي إسرائيلي، ثم جرى تخفيض مدة الحبس عام 2012 إلى37 عاما.

كان شقيقه أسعد هو الوحيد الذي استطاع أن يعانقه ويحتضنه عندما جمع بينهما السجن عام 1989 لمدة 3 سنوات. وفي ذكرى اعتقاله الـ12، توفي والده عام 1998، ولم يتمكن من وداعه أو حضور جنازته، وسمح له بمكالمة هاتفية فقط، وبمشاهدة تسجيل فيديو للجنازة. كما عانى من المنع لزيارة الأهل لأغراض إنسانية، إذ أصيبت والدته بمرض ألزهايمر عام 2013.

ورفضت سلطات الاحتلال تسجيل طفلته مولودة شرعية في سجلاتها، ولم يسمح له برؤيتها إلى أن أجرت فحص الحمض النووي، وهي ابنة سنة ونصف السنة من عمرها.

وعلى مدى سنوات طويلة، ظلت عائلة وليد ابن فريدة الملقبة بـ”أم الأسرى”، تنتظر موعده مع الحرية في 23 مارس 2023، غير أن محكمة عسكرية عاقبته بعامين إضافيين بتهمة “تهريب هواتف نقالة إلى داخل السجن”.

وهو ضمن 23 أسيرا جرى اعتقالهم منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وقد رفضت إسرائيل الإفراج عنه في كافة صفقات التبادل والإفراج عن أسرى الداخل الفلسطيني في أعوام 1994 و2008 و2011، كما تراجع الاحتلال عن وضعه في قائمة المفرج عنهم من الأسرى القدامى عامي 2013 و2014.

وفي رحلة أسره بين الشباب والكهولة في السجون الإسرائيلية منذ 1986، تنقل وليد بين سجون الجلمة وبئر السبع ونفحة وشطة وعسقلان والجلبوع وهداريم، وتعرّض للعزل الانفرادي في العامين 2017 و2018 وعام 2020، بالإضافة الى ملاحقة كتاباته ورسائله ومصادرتها ومعاقبته عليها.

سرطان نادر

في 18 دجنبر 2022، شُخّص وليد بمرض التليف النقوي، وهو نوع نادر من سرطان نخاع العظم الذي تطور عن سرطان الدم (اللوكيميا) الذي شخص به عام 2015، وعولج دوائيا لا كيميائيا.

وفي مارس 2023، أُدخل المستشفى بعد تدهور حاد في وضعه الصحي، حيث عانى من التهاب رئوي حاد وقصور كلوي. ونادت عائلته لإطلاق سراحه، لأنه يحتاج عناية صحية خاصة لا يتوفر الحد الأدنى منها في الأسر، كما يتطلب إجراء عملية زرع نخاع دقيقة.

في يونيو 2023، رُفض طلب الإفراج عن وليد لوضعه الصحي، كما رفضت المحكمة المركزية الالتماس الذي قدمه ضد قرار اللجنة.

بينما اعتبرت مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، أن “إبقاءه محتجزا هو قسوة مجانية”.

ورصد مركز صدى سوشيال للحقوق الرقمية خلال ماي 2023، أكثر من 85 تغريدة تحريضية إسرائيلية عبر توتير ضد الأسير وليد، وفق مركز فلسطين لدراسات الأسرى.

وحسب مؤسسات فلسطينية مختصة بشؤون الأسرى، فإن إصابة وليد بمرض سرطان الدم يسلط الضوء على ملفّ الإهمال الطبّي واستمرار جريمة “القتل البطيء” الذي تمارسها مصلحة إدارة السجون الإسرائيلية بحقّ 700 أسير مريض، 24 منهم مصابون بالسرطان، وبأورام بدرجات متفاوتة، وفق تقرير مشترك لهيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان ومركز وادي حلوة في القدس، بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني في 17 أبريل 2023.

الأسير الأديب

قضى وليد ما يقرب من ثلثي حياته في السجن، لكنه حرر نفسه من خلال الكتابة وتحصيله العلمي والأكاديمي داخل المعتقل، إذ يقول “لا أكتب إلا لأني أريد الصمود داخل الأسر”.

فالكتابة بالنسبة له، عملية تسلل خارج الزنزانة يحاول أن يمارسها يوميا، ويقول “هي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية، وهذا لا يعني أن الكتابة انفصال عن واقعي داخل الأسر”.

وتتنوع الكتابات التي تُشكل المشروع الفكري للأسير الأطول وجودا في السجن، بين الرسائل التأمّلية والسياسية التي تولي اهتماما بقضايا الوجود الإنساني، ومنها قضية الحرية والمقاومة والأسر والتاريخ.

أشهر كتاباته “يوميات المقاومة في جنين”، وهو كتاب قدم فيه توثيقا للتجربة الفلسطينية، وسيرة مختصرة عن تاريخه النضالي، وعن تأملاته في تجربة فلسطين المحتلة عام 1948، وفي تجربة الكفاح المسلح.

أما كتاب “صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب”، فيتحدث عن المهمة النضالية التي اضطلع بها بعد أسره، وتجربته في الحركة الأسيرة من داخل سجن “الجلبوع”.

ويعد هذا الكتاب مرجعا علميا لكتابات السجون، إذ حاول من خلاله تفسير آليات التعذيب في السجون الإسرائيلية بوصفها “مستوطنة عقاب” لصهر وعي الأسرى وكسرهم “جسدا وفكرا وروحا”.

وفي سياق هذه الفلسفة، يقول “أكثر ما آلمني هو أنّني عايشت في الأسر الجد والابن والحفيد، وشعرت بأن ثمَّة سيناريو يعيد نفسه، وكأن السجن تركة يرثها الأبناء والأحفاد عن الأجداد”.

ولهذا أراد وليد أن يخرج بطل القصة -“جود” ابن الـ12 عاما- عن هذا المألوف في “حكاية سر الزيت”، واختار له وجودا في الحياة عن طريق “نطفة محررة” لأب يسكن السجن لآماد مفتوحة، وهكذا “نجح دقة في خلق قصة الحرية والأمل داخل السجن”، كما كتبت الأديبة أحلام بشارات عام 2018.

ويستكمل الأسير الأديب حكايته، في جزء ثان يتحدث عن النكبة واللجوء في “حكاية سر السيف”، وتشكل “حكاية سر الطّيف” جزءا ثالثا يحمل عنوانا أوليا “الشهداء يعودون إلى رام الله”.

اقترن اسم وليد بـ”الزمن الموازي”، وهي رسالة كتبها في اليوم الأول من عامه الـ20 في الأسر، عن فلسفة زمن الأسرى وزمن من هم خارج الأسر.

وقد بلوّر هذا المفهوم في 3 نصوص جاءت على شكل “رسالة الزمن الموازي” عام 2005، ومسرحية غنائية بعنوان “حكاية المنسيين في الزمن الموازي” عام 2011، ثم “مسرحية الزمن الموازي” التي أنتجها مسرح الميدان في حيفا وأطلقها عام 2014.

* الجزيرة / وكالة الأناضول