وجهة نظر

التعليم في بلاد العرب أو العرب في واحة الجهل

“…لا مناص من التعليم الجيد لخلق جو نفسي عند كل فرد في المجتمع اساسه المعرفة المتكاملة والمتزنة والرصينة , ليستمر التنوير الانساني ساطعا لابد من اجبار عقولنا على التعلم والتعلم والتعلم ….” الكلام هنا للكبير جون لوك والذي حتما لن يختلف حول مضمون القولة اعلاه اثنين سواء من العوام او من العلماء , ولن يجادل فيه اي نسق فكري بانه ضرورة حضارية وانسانية لبناء الانسان والعمران حسب العلامة ابن خلدون , ودون ذلك فالخبط العشواء مصير كل امة متخلفة عن مجرة المعرفة والعلوم .

في الجغرافية العربية امر التعليم مأزوم بقوة الواقع المعاش وبشهادة دولية تخرجها لنا المنظمات الدولية في قوائم الجامعات المرتبة في الطليعة والتي نغيب عنها كلما تجدد الاحصاء , وبغض النظر عن تراكم التاريخ الذي يعطينا منطقا وسببا في التخلف الذي بدأ اختياريا في فلول الدولة والخلافة نتيجة الدخول في علم الكلام دون كلام العلم وبعدها بحين دخل العرب ثلاجة التبعية وسياسة التتريك ايام ” الايالات” في عصر بني عثمان والتي ادخلت الشرق العربي في الانتداب وغربه في الحماية والاستعمار والذي خلف دمارا منهجيا في دولنا وعطلا فكريا في النهوض بانفسنا والانعتاق من بوابة التعليم الذي لم نحسن فيه حتى تقليد البرامج , لا رغبة في هذا المقال بان اربط العقم التعليمي بالتاريخ بالقدر الذي سيعيننا فيه هذا التاريخ على معرفة باحة الاستراحة التي اطلنا فيها الانتظار .

لكل عبادة عماد وعماد التعليم عبر الزمن هو ” المعلم ” ومن المعلوم بالضرورة من تجارب الاخر ان تأهيل هذا العنصر شكل اساس الممارسة النهضوية وهنا لا ننفي اهمية الاركان الاخرى كالمناهج والتمويل والتجهيز لكن نزعم انه مهما بلغت هذه الاركان من المثالية والجاهزية فان دور المعلم يبقى ساميا مرتفعا , ومشكل المعلم العربي مركب بين النفسي والتقني , فمنهجيا المنظومة التعليمية التي تخرج منها المعلم تتسم بالفشل او العجز وفاقد الشيء لا يعطيه كما قالت العرب , فالمنظومة اصلا مبنية على الغش في التحصيل ( دول شمال افريقيا نمودجا) فالمعلم يصل لمنصبه بعد سيرورة طويلة من عمليات الغش ( لا اعمم الظاهرة لكن الاستثناء يثبت القاعدة) فيصل المعلم بعد مرحلة جامعية اساسها التعب واليأس وسوء التحصيل وجمود التركيب المعرفي الذي يلازم جامعاتنا , اضافة الى غياب المناهج التربوية المتعلقة بمهنة التدريس في مجزوئاتنا العلمية , يعيش الانسان العربي هاجس الوظيفة والعلم عننا مجرد طريق للتحصل عليها لهذا فان الاساس الانساني والراقي لمهنة التعليم تفقد براقتها في رقعتنا الجغرافية وتفرغ جبرا من محتوى حب المهنة الذي يفترض ان يتسم به المعلم فيصبح الراتب اهم شيء في ذهنية العاملين في المجال . زد على هذا وذاك النمط الاداري لتسيير المؤسسات التعليمية والتي تسير بعقلية الضبط والزجر وبنمط المصانع في حين ان المدرسة باعتبارها اسمى المؤسسات في الدولة عليها ان تحظى بوضع اعتباري خاص في التسيير ويتعرض لتسييرها الكفاءات التربوية ذوو الحس التعليمي والفكري لا اصحاب الضبط المكتبي والنفوذ الكاريزمي .

اما على المستوى النفسي فالمعلم في البلد العربي يعيش هاجس الراتب البخس ( المعلم يعاني من مشاكل معيشية في البلدان العربية حسب التقرير الاخير لليونسكو) فلا يستقيم العطاء الجيد مع قلة ذات اليد , والتجربة الالمانية خير شاهد على ان الوضع النفسي المعيشي للمعلم اساسي لضمان انتاجية افضل , ففي فلندا مثلا يمنع على المعلم مزاولة اي نشاط نفعي اخر غير التدريس في مقابل اجر جد محترم يعادل كتاب الدولة في حين ان بعض البلدان العربية يضطر معلموها لاضافة اعمال اخرى في جدولهم المهني من اجل حفظ الكرامة البشرية وهذا يحيلنا رأسا للحديث عن مشكل الميزانيات المرصودة لمجال التعليم .

” المعلم الانسان ” غاية فاين الوسيلة ؟ انها المناهج وظروف الاشتغال غير السليمة والتي تصب في نهر التقليد والتخريج السلبي للاجيال فالنمط الرتيب للمناهج العربية المبنية على التلقي دون تفاعل والرسم دون تجربة لا يمكنها خلق فضاء تفاعل يشكل وعي المتلقي مما يشكل حرجا على المستوى الثقافي العام , فالبناء النسقي للمناهج يعتمد رد البضاعة لاهلها في كل اختبار فيدخل التلميذ والطالب في دوامة المذاكرة والحفظ ” الصم” عوض منطق البحث والمدارسة والنقاش للوصول للمعرفة , معظم الدول المتقدمة عدلت من منهجية التنقيط المبنية على العقاب بل وادخلت مناهج للاجابات والاختبارات الجماعية المبنية على التثقيف الذاتي بين الاقران وقد احرزت فيه بعض الدول تقدما ملحوظا ونتائج مبهرة في القضاء على الخمول الدراسي ( حسب هوبز لا يوجد غباء بل فقط مجرد خمول فكري ) , اضف على كل هذا تغييب اساسيات البحث العلمي المبني على التجربة والمناقشة وطول ساعات الدراسة الاسبوعية وعمليات الشحن الكمي التي لا تتناسب مع الفئات العمرية التي تتلقى المعلومة .

التعليم العربي من ضحايا العولمة السريعة التي لم نواكبها سياسيا , في بعض دول حرف الضاد بدأت الحكومات في تحفيز الناس على الاقبال على الدراسات التقنية واهمال العلوم الانسانية وهذا قد يشكل حلا للحاق بتطور المعامل لكنه ابدا لن ينتج لنا الانسان , الانسان الذي بنى ذات يوم حضارة العراق واشرقت الاندلس بعلومه وكان انسكلوبيديا متنقلة , اليوم اصبح نزور الشيخ غوغل من اجل التعرف على البديهيات واصبحت الزهراء والزاهرة مجرد بندقية فارغة لا تخيف من حولنا .