حوارات

أمغار: احتجاجات الشباب تراكم لأزمات بنيوية وتعبير عن تآكل الثقة في الوسطاء

اعتبر الباحث في علم الاجتماع، مولود أمغار، أن موجة الاحتجاجات الشبابية الأخيرة ليست حدثا عفويا، بل هي نتاج تراكمي لعوامل بنيوية، وتمثل فصلا جديدا في ثقافة احتجاجية متصلة بدأت مع حركة 20 فبراير وامتدت عبر حراكات الريف وجرادة. وأوضح أن مشروعيتها تستند إلى ضغوط اقتصادية واجتماعية مباشرة، أبرزها تفشي البطالة، وتدهور الخدمات العمومية في الصحة والتعليم، والشعور المتنامي بانعدام الإنصاف في أولويات الإنفاق العمومي، الذي يراه الشباب منفصلا عن احتياجاتهم الأساسية.

وأضاف أمغار أن تآكل الثقة في الأحزاب السياسية والنقابات أضعف قنوات الوساطة التقليدية، ودفع الشباب للبحث عن بدائل مباشرة. ونتيجة لذلك، تحول الشارع والمنصات الرقمية إلى فضاءات بديلة للمشاركة السياسية، حيث يتم إنتاج الشرعية والتأثير في النقاش العام خارج الأطر المؤسساتية التي لم تعد مقنعة لهذا الجيل.

ويرى أن ما يميز “جيل Z”، الذي نشأ في بيئة رقمية وتأثر بسياق من الهشاشة الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا، هو قدرته على التعبئة السريعة. لكنه كشف عن تناقض لافت، وهو أن هذا الجيل يستخدم أدوات مبتكرة ليطرح نفس المطالب الاجتماعية التي رفعتها الأجيال السابقة. ولهذا السبب، رفض الباحث وصف التحركات بـ”غير المؤدلجة”، مؤكداً أن المطالبة بالحقوق الأساسية هي بحد ذاتها موقف أيديولوجي واضح.

وفي تحليله لرد فعل السلطات، حذر أمغار من أن سياسة “المنع” هي أسلوب “ردع” يهدف لتجفيف الفعل الاحتجاجي، وليست “احتواء” يمتص الغضب. وشدد على أن هذا الأسلوب، وإن بدا فعالا أمنيا على المدى القصير، فإنه يولد على المدى البعيد شعورا بالإقصاء السياسي ويصادر حرية التعبير، مؤكدا أن الحل يكمن في استجابة سياسية تفتح قنوات الحوار وتعيد النظر في الخيارات التنموية على أساس العدالة الاجتماعية.

وفيما يلي نص الحوار 

لماذا برزت هذه الموجة الاحتجاجية الشبابية المتزامنة في عدة مدن مغربية؟ ماذا تكشف عن التحولات الاجتماعية وطبيعة المطالب، خاصة مع تراجع الثقة في الأحزاب والنقابات؟

أولا، أود أن أشير إلى أن ما نشهده اليوم في احتجاجات جيل Z ليس انفجارا عفويا بمعزل عن سياقه العام أو التاريخي. فهذه الاحتجاجات تعد نتاجا تراكميا لعوامل بنيوية، سوسيو-ثقافية وتكنولوجية، وتشكل فصلا جديدا من الثقافة الاحتجاجية التي أرستها حركة 20 فبراير. وقد امتدت هذه الثقافة لاحقا عبر حراك الأساتذة المتعاقدين، واحتجاجات طلبة الطب والصيدلة، وكذلك حراكات الريف وجرادة وزاكورة، وصولا إلى الاحتجاجات الأخيرة لسكان المناطق القروية والنائية، الذين يطالبون بحقهم في التنمية الاجتماعية والمجالية مثل باقي المواطنين في المركز.

فيما يتعلق بمشروعية هذه الاحتجاجات وتوقيتها، أعتقد أن حتى أكثر المتشككين والمتوجسين من «المؤامرة الداخلية والخارجية»، يجدون أنفسهم هذه المرة أمام موجة احتجاجية مشروعة في نظرهم، إذ لا يمكن إنكار أنها وليدة ظروف طبيعية ومباشرة. فالشباب المحتج يعيش تحت وطأة ضغوط اجتماعية واقتصادية مركبة: تفشي البطالة، تدهور الخدمات العمومية في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم، وإخضاع هذه القطاعات لمنطق السوق وتسليعها. يضاف إلى ذلك الإحساس المتنامي لدى الفئات الهامشية بانعدام الإنصاف في الاستفادة من الموارد وبالاختلال في أولويات الإنفاق العمومي، حيث ينظر إلى توجيه ميزانيات معتبرة لمشاريع رياضية أو رمزية، في مقابل العجز الحاد في البنيات الصحية، بوصفه في نظرهم تجسيدا لانفصام في الترتيب بين الضروري والكمالي. هذه المعطيات كلها تفسر لماذا يرفع المتظاهرون شعارات تتمحور حول الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية؛ فهي ليست مطالب أيديولوجية أو سياسية مجردة، بل مطالب أساسية ترتبط مباشرة بالعيش اليومي وبتجارب الحرمان الملموسة التي يختبرها المواطنون في حياتهم اليومية.

لقد أدى تراجع الثقة في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية إلى إضعاف قنوات التعبير التقليدية التي كانت تشكل، في السابق، فضاء مؤسساتيا للتأطير والتفاوض. هذا التآكل في الشرعية التنظيمية جعل تلك القنوات تبدو غير مقنعة بالنسبة للفئات الشابة، التي لم تعد ترى في الأحزاب والنقابات وسطاء قادرين على ترجمة معاناتها اليومية إلى برامج سياسية ملموسة. ونتيجة لذلك، اتجه الشباب نحو أشكال جديدة من التعبير المباشر، كالتظاهر الميداني والدعوات السريعة عبر الوسائط الرقمية، بما يعكس تحولا في أنماط الفعل الجماعي. هنا يصبح الاحتجاج ذاته شكلا من أشكال المشاركة السياسية، أو بالأحرى بديلا عن المشاركة المؤسساتية الكلاسيكية، حيث يتحول الشارع والمنصات الرقمية إلى فضاءات بديلة لإنتاج الشرعية والتأثير في النقاش العام.

إن الحضور القوي والوازن للشباب في المشهد الاحتجاجي بالمغرب ليس سمة طارئة ولا ميزة مستحدثة؛ فالمتتبعون لمسار الحركات الاجتماعية منذ الاستقلال يُدركون أن الشباب ظل دائما فاعلا محركا ومؤثرا في كل موجات الاحتجاج الكبرى، سواء في انتفاضات المدن أو في الحركات الطلابية والنقابية. غير أن ما يفرض نفسه اليوم هو ضرورة التوقف عند ما يميز جيل Z، أي الفئة المولودة في أواخر التسعينيات وبداية الألفية. هؤلاء نشأوا في بيئة رقمية متقدمة عن الأجيال السابقة، ما جعلهم أكثر قربا من أدوات التواصل الشبكي وأكثر قدرة على تحويلها إلى وسائط تعبئة وتنظيم. وفي الوقت ذاته، يتأثر هذا الجيل بسياق اقتصادي واجتماعي مضطرب: عقود من الهشاشة في سوق الشغل، تداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية، سنوات الجفاف، ثم الآثار العميقة لجائحة كورونا.

أعتقد أن هذه الأحداث تكشف عن تناقض مثير للاهتمام، وهو أن جيل Z، يستخدم أشكالا تعبيرية جديدة وسريعة ومباشرة، غالبا رقمية ومرئية قادرة على التعبئة على نطاق واسع، لكنه في الوقت نفسه يطرح نفس المطالب التي رفعتها الأجيال السابقة مثل الحق في الصحة، التعليم، وفرص المشاركة في التعبير السياسي. هذا التناقض يوضح كيف أن الابتكار في أساليب الاحتجاج لا يعني بالضرورة تغييرا في جوهر المطالب الاجتماعية.

يصف بعض المراقبين هذه الاحتجاجات بأنها «غير مؤدلجة» أو خالية من الأيديولوجيات التقليدية. كيف تقيمون هذه الفكرة من منظور سوسيولوجي، وهل يعني ذلك ضعفًا في المطالب أم مجرد تحول في أشكال التعبير والوسائل الاحتجاجية؟

أجد أنه من السابق لآوانه، القول إن هذه الاحتجاجات مفرغة من الأيديولوجية أو أن مطالبها أقل حدة مقارنة بسابقاتها، مثل حركة 20 فبراير. فالاحتجاجات قد تبدو أقل أدلجة على مستوى الخطاب الرسمي أو الشعارات الأيديولوجية التقليدية، لكنها في الوقت ذاته تعكس مطالب اجتماعية واقتصادية واضحة ومباشرة، مرتبطة بالحق في الصحة والتعليم وفرص العمل والعدالة الاجتماعية. كما أن طبيعة التعبير الجديدة، عبر الوسائط الرقمية والفضاءات البصرية، لا تعني بالضرورة ضعفا أو تبسيطا للمطالب، بل تمثل تطورا في أساليب التعبير والتواصل الاحتجاجي بما يتناسب مع سياق جيل Z وتجربته الرقمية والاجتماعية.

كيف نقرأ طبيعة رد فعل السلطات؟ هل خيار «المنع» منعرج احتوائي أم عامل لتأجيج التوترات؟

تشير التقارير الصحفية الميدانية من عدة منابر إعلامية إلى أن السلطات منعت الاحتجاجات في العاصمة وعدد من المدن، مع تسجيل حالات اعتقالات وفض لتجمعات. غير أن هذا الأسلوب في التعامل مع الاحتجاجات يبدو مألوفا لأي متتبع، لأنه متكرر في أساليب قوى حفظ النظام عند مواجهة تحركات واسعة النطاق مثل هذه.

تعليقا على ما جاء في سؤالك، لا أعتقد أن المنع، نوع من أنواع الإحتواء. لأن الإحتواء في الأدبيات الأكاديمية، عادة ما يحيل إلى استراتيجية مزدوجة تجمع بين ضبط أمني محدود وبين فتح قنوات للتعبير أو المشاركة، بهدف امتصاص الغضب واحتواء الأزمة في حدود يمكن التحكم فيها. أما المنع المطلق فهو ردع لأنه يهدف إلى تجفيف الفعل الاحتجاجي.

على المدى القصير، قد يسهم المنع وفض التجمعات في تقليص إشعاع الاحتجاجات وتقليل قدرتها على الظهور في الفضاءات العمومية، ما يجعلها تبدو كأداة تكتيكية فعالة من منظور أمني. إلا أن الاعتماد المتكرر على هذا الأسلوب على المدى المتوسط والبعيد يمكن أن يولد شعورا بالإقصاء السياسي ويعتبر بمثابة مصادرة لحرية التعبير. لذلك، ينبغي صب التركيز على الاستجابة السياسية في التعاطي مع هذه الاحتجاجات، عبر فتح قنوات للحوار والتفاعل مع المطالب الاجتماعية، بما يسمح بتحويل طاقة الغضب إلى مسارات مؤسساتية ومنظمة، وإعادة النظر في الخيارات الاقتصادية مع مراعاة مبدأ العدالة الاجتماعية والنموذج التنموي الشامل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *