وجهة نظر

عيد الأضحى في تجلياته

سَيَفْتَحُ المغاربة أبواب بُيُوتهم هذه الأيام لاستقبال ضيف اعْتادوا على قُدومه بشكل سنوي، ليس للاصطياف وقضاء العطلة الصيفية، بل ليكون رَمزا لشعيرة دينية مقدسة، تَمْتَحُ رمزيتها من تاريخ الأنبياء والرسل، وأسرار علاقة الإنسان بخالق الكون.

لكن هذه المرة، جاء في حلة جديدة، يَتَزَيَّنُ بِحَلَق أصفر مُرقم في أذنه، ليعلن بدوره دخوله إلى عالم الثورة الرقمية، ووصول عدوى الحداثة لِمَعْقَلِهِ، في خطوة الغرض منها، تنظيم القطاع وضبطه ومعرفة مصدر أغنام الأضاحي وأصحابها، لتفادي مشاكل السنة الفارطة.

تَجَذُّرُ علاقة المغاربة بدينهم، تجعل من عيد الأضحى، حَدثا محوريا في مَعِيِش حَياتهم، إلى درجة نعته بالعيد الكبير، بالنظر إلى مكانته الراسخة كموسم قار ، تُشَدُّ لَهُ رِحَاُل الناس، ويسافر له البعيد والغريب، وتتوقف ساعة زمن عمل الإدارات، وتُغلق له أبواب الشركات والمصانع، طلبا في الاجتماع بالعائلة، وصلة الرحم، والاستمتاع مع الأحباببالجلوس على موائد الأكل المشتركة.

الأرياف تنتظر بشوق مجيئه، فهو معيلها، والضامن لِمَوْرِد مالي قار لخزانتها، يعينها على شقاء العيش في أحراش البادية،فتصبح الأغنام بالنسبة لها، اقتصادا قائما بذاته، وفرصة لتسويق اللحوم الحمراء، التي يعرف رواجها ضعفا بائنا في الأيام العادية، بالنظر لتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، فتتجه طوال العام للحوم الدجاج التي يقل ثمنها، مقارنة بالأسماك ولحوم البقر والأغنام.

هذا العيد، بات يحمل في طياته حمولة اجتماعية أكثر منها دينية، فَتَحَوَّلَ من شعيرة سَمْحَة للتقرب إلى الله، وشكره على تسخير باقي المخلوقات لخدمة احتياجاته من الأكل والشرب، إلى مظهر من مظاهر التباهي والتفاخر الاجتماعي، فيكرس المواطن جهده لشراء أضحية العيد، حتى ولو كانت تكلفته تفوق دخله واستطاعته، خصوصا بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

أكثر ما يثر الانتباه، هو المظاهر المصاحبة لعيد الأضحى، على الأخص بالمدن الكبرى المليونية، فأمام المد الزاحف للعمران، واتساع علو العمارات والأعداد الهائلة من الشقق، واشتداد الكثافة السكانية في حيز مجالي جغرافي ضيق، الشيءالذي شكل صعوبة بالغة في تسويق الأغنام للمواطنين، فتصبح المدن بمثابة أسواق أسبوعية، حيث تتناثر جزر من الأغنام في الأحياء والأزقة والشوارع، وما تتركه مخلفاتها من أزبال وروائح، وكذا عرقلة للسير والجولان.

وصف ما يحدث قبيل العيد، لا يُرْجَى من ورائه تصويب سهام النقد لتمظهراته، بقدر ما يتغيىالكشف، إلى أي حد يمكن تقييم سلوكيات المجتمع وتفاعلاته مع تحولات واقع المدينة، التي تزحف الشاحنات والآليات العملاقة صوب عمقها، محملة بحمولة تفوق طاقتها، وتخترق شوارعها وأزقتها الدراجات النارية ثلاثية العجلات، التي تشكل هذه الأخيرة مأزقا حقيقيا للسلطات في كيفية التعامل معها، فيصبح السير والجولان في المدن إبان هذه الفترة بمثابة مخاطرة غير محسوبة العواقب، توازي مخاطرة الدخول في الأسواق التي تخصصها السلطات لبيع الأغنام، والتي في غالب الأحيان، مجرد مساحات عشوائية، عنوانها الغبار والأتربة المتطايرة، والأحجار المنتشرة، على الرغم من أن الرسوم الضريبيةالمفروضة لولوج الأضاحيلتلك الأسواق، تُدِرُّ أَموالا مهمة، لا ندري ما هو مصيرها، إذا لم تكن مخصصة لتجهيز تلك المساحات في ظروف أقل ما يقال عنها مقبولة.

من الواضح، أن تَحَضُّر المدن، خلق إشكالية للمواطن وللسلطات العمومية، فالشقق السكنية الحديثة، التي تتميز عموما بصغر حجمها وضيق مساحتها، غير قادرة على استقبال الأغنام، فيتحول العيد من فرحة إلى محنة، تؤرق بال الناس وتشغل تفكيرهم، كما أن تنقل الأضاحي وذبحها في مساكن المواطنين، يطرح مسألة بيئية، تتجلى في كيفية التعامل مع الأطنان من أمعاء وأحشاء الأضاحي المتراكمة عبر الطرقات ومطارح الأزبال، ناهيك عن تخصيص شباب الأحياء لزوايا الأزقة من أجل إشعال النار بغية إحراق رؤوس الأضاحي، مما يتسبب في مشاحنات وخصومات بين السكان.

هذه المظاهر، تطرح في بعدها السوسيولوجي مسألة انفلات بعض السلوكيات المصاحبة لعيد الأضحى عن المقاصد النبيلة لهذه الشعيرة المقدسة، فالإسلام دين الطهارة والنظام، ولا يقبل أن تعم الفوضى بشكلها الحالي، والتي يمكن تفسيرها بانعكاس منسوب الوعي لدى الشعوب والمجتمعات على ممارسة تلك الشعيرة، مما تعطي صورة حقيقية عن مستوى التدبيرالمجالي، الذي يتناسب في تجلياته مع مضمون التقارير الدولية، التي تَتَذَيَّلُ بلادنا أغلب التصنيفات في الكثير من المجالات.

لم تعد أدوية كمال الأجسام تقتصر فقط على الرياضيين بغية تكبير حجم عضلات أجسامهم، بل انتقلت عدوى تناول أدوية الصيدليات، إلى لحوم الأغنام، التي بدأ أصحابها في الاستعانة بالحقن والأدوية، لتسمين الأضاحي، لضمان التنافسية في السوق، والرفع من أثمنتها، الشيء الذي تَسَبَّبَ السنة الفارطة، في مشاكل، تكمن في تغير لون لحم الأضاحي نحو الاخضرار بمجرد ذبحها،مما دفع بأصحابها إلى التخلي عن أكلها، لما تشكله من أخطار على صحتهم.

يبقى من حسنات عيد الأضحى، فضلا عن تدعيم أواصر التجمع واللقاء بين أفراد العائلات، للإبقاء على تقليد روح الجماعة والتعاون، في زمن الفردانية، وتفكك حجم الأسرة الممتدة، واكتساح الوسائط التكنولوجية، التي جعلت الإنسان يعيش داخل ثوب العزلة، هو إتاحة الفرصة لشرائح عريضة من المجتمع لتذوق ما لذ وطاب من اللحوم، وخيرات الله الحسان، سعيا لتعويض باقي الشهور العجاف من السنة.
عيد الأضحى، اكتسى زخما كونيا، عندما أضحى ضمن أيام العطل في مفكرة هيئة الأمم المتحدة، على الرغم من تكالب تيارات الحداثة، والحفر في جنباته، في محاولة لطمس معالمه، وإخضاعه لنمط عيش ثقافة معينة، لكنه ما يزال صامدا شامخا، كجزء من الهوية الثقافية والحضارية للمسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *