الكتابة في الغربة وغربة الكتابة

درسنا صغارا أشعارا كثيرة وقصائد تتغنى بالوطن كانت الغاية منها ليس فقط زرع محبته في قلوبنا، وإنما أيضا خلق نوع من الصلة الروحية بين مكان ولدنا وكبرنا فيه وبين أنفسنا وعقولنا التي تتجاذبها الأهواء كلما نضجت وازداد وعيها بقيمة الفرد وكرامته، فصارت تميل لمقارنة بلدها مع بلدان أخرى أكثر ديمقراطية وأكثر احترام للإنسان. السؤال ما الذي يجعل طفلا صغيرا / طفلة صغيرة، حين تصبح امرأة / حين يصبح رجلا ينسى علاقته بشجرة الليمون وحقول الورد وحبات الرمل وخصوصية المناخ وأطباق الجيران المجبولين على الكرم. ما الذي يخلق الغربة بين الفرد ووطنه؟ كيف ولماذا تتجلى الغربة في الأدب؟ وعلى وجه التحديد، كيف يمكن أن يصبح الوطن الذي يكتب عنه الكتاب والشعراء سببا للشعور بالغربة لا بالانتماء؟ في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، أستشهد هنا بما قاله المفكر الأردني “موفق محادين” في محاضرة له بعنوان “مفهوما الجدل والاغتراب”: “الوعي هو الذي ينتج الاغتراب”.
إن قدر بعض الأوطان العربية ألا تجني ثمار ما غرست ولا أن تحصد ما زرعت، إذ غالبا ما تفسد الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المواطنين إيمانهم بمستقبل أفضل ببلدهم، فيصبح احتمال الهجرة ليس فقط واردا إنما خطة بديلة عالقة إلى أن تحين لحظة تنفيذها.
“قالت أمي: الثورات تنبت الخراب سهلا وخفيفا كأزهار الفول
البيوت التي تفقد حيطانها وأسقفها تصير قلوب أصحابها ثقيلة
قالت مدرسة الفصل قبل القتال الأخير: الثورات يصنعها الأبطال
لكن الأبطال يموتون مبكرا أو يسجنون مبكرا
أنا لا أريد أن أكون ثوريا
أريد فقط أن أرسم حقل شعير تحت شمس كبيرة
وأرسم طيورا فوق الأشجار”
(الشاعر الليبي عاشور الطويبي)
إن حب الوطن ليس هو ما يتغير إنما يتغير المنظور وتتغير الأفكار وحين يشتد شعور الغربة لدى الكاتب أو الشاعر أو الأديب بشكل عام في وطنه يلجأ لقلمه ولكلماته عساها تحميه من صقيع اغترابه عن البلد الذي يعيش بداخله أو الذي غادره ولازال برده يكويه. والأمثلة على ذلك كثيرة والأدب العربي خير شاهد عليها، والوقائع في بعض الدول العربية جعلت من كتابها حملة أفكار يائسة من مستقبل أفضل، مستبعدة كليا لفكرة الخلاص، لقد بات الخلاص بالنسبة لهم وهما ليس إلا.
يحضر لبنان في ذهني كمثال حي لما سبق، ذلك البلد الناعم النائم على فوهة بركان أنى لحظة يمكن أن ينفجر أهله وذويه. تقول “ديما معوض جبور” في مقال بعنوان “ألو الغربة…هنا لبنان”:
“الغربة هي أن تقطن وطنا ليس بينك وبينه من مشترك، فتصبح غريبا عن حكامه الذين استفردوا بك ونهبوا أموالك وصادروا أحلامك، وتؤول غريبا عن خريطته التي باتت تنادي بدولة الفقيه وتنفذ تطلعات ورؤية سياسية معينة.
وطننا ركلنا.
نركل حين ندفع فاتورة كهرباء لم نبصر نورها
نركل حين نذهب إلى المصرف لسحب أموالنا فيمنعوننا.
نركل حين نشهد على إقفال المدارس والمستشفيات ولا من حسيب أو رقيب.
في بلد عربي مثل لبنان تنهشه الطائفية والمصالح السياسية ومعاناة مواطنيه وسخط مبدعيه وكتابه، لا يسعنا إلا أن نفهم معنى أن تكون غريبا في بلدك وأن تصبح لحظة الكتابة أيضا غربة عن الذات لأن لا رابط بين ما تكتب عنه وبينك سوى ذكريات بعيدة يتكرر صداها بحنين دافئ سرعان ما يقتله صقيع الواقع. “الأحقاد هي هي، ومثلها الويلات والخيبات والصفقات، والأثمان التي لا يدفعها سوى مقهوري هذا العالم وفقرائه ومساكينه وأبريائه. ألوان متغيرة لمأساة واحدة، للعنة جغرافية اسمها لبنان”. (جمانة حداد/ القتيلة 232)
إن الحروب ليست فقط تلك التي ترمي بالقنابل فتهدم المنازل وتقصف المساجد والكنائس، إن الحروب أيضا هي مسؤولون لا يؤدون أدوارهم، هي طائفية شرسة لا تعترف بوحدة الإنسانية إنما تحاسبك حسب الدين أو المذهب الذي تنتمي إليه. لبنان مثل لأمثلة عديدة لدول عربية بعضها غربتها ظاهرة وبعضها الآخر مستترة. إن كل بلد يشعر فيه مواطنوه وكتابه بأن الحياة فيه تجربة للموت فهو بلا شك بلد غريب عن ساكنته، والغربة طريق مسدود لا تنفع معه الذكريات والأغاني خاصة إذا كانت الغربة مرفقة بالاضطهاد وغياب الحقوق واستغلال خيرات الوطن وعدم العمل على توحيد أبنائه والعمل لمصلحتهم وتمثيلهم خير تمثيل. وأخيرا وليس آخرا سلام على درويش حين قال في قصيدته “رسالة من المنفى
هل يذكر المساء
مهاجرا أتى هنا… ولم يعد إلى الوطن؟
مهاجرا مات بلا كفن؟
يا غابة الصفصاف! هل ستذكرين
أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
كأي شيء ميت- إنسان؟
هل تذكرين أنني انسان
وتحفظين جثتي من سطوة الغربان؟
اترك تعليقاً