وجهة نظر

“التنسيقيات” سحر انقلب على الساحر

إن إفراغ الحقل النقابي من بذور الحياة، وتحويله لصحراء قاحلة لا نبات فيها غير الأشواك وبعض الأعشاب الضارة التي تحتمي فيها الحشرات والحيوانات السامة، جعل الشغيلة تبحث عن بدائل، ما دامت الطبيعة تخشى الفراغ بتعبير أرسطو.

جاء هذا الفراغ الذي نتحدث عنه ضمن استراتيجية مقصودة من طرف جهات نافذة تريد أن تتحكم في البلاد والعباد، وذلك بإفراغ المؤسسات الديمقراطية من محتواها، حتى لا تعرقل عمليات النهب والسلب التي تُمَارَس على هذا الشعب المقهور، وهكذا اتجهت الأنظار إلى مجموع المؤسسات التي تؤثت المشهد الديمقراطي؛ وضمنها مؤسسات الأحزاب والإعلام والمساجد والنقابات و… حتى صرنا أمام مؤسسات لا تحمل من الصفة غير الاسم، الأمر الذي وضع البلد في مستنقع من الفوضى والفساد والجهل والطبقية والاستغلال البشع … سيقود -إن لم تُعَدْ الأمور إلى نصابها- الوطن إلى ما لا تحمد عقباه..

إن “التنسيقيات” ناقوس خطر يدق في وجه الدولة، حتى تعيد للعمل المؤسساتي هيبته التي سُلِبت منه بفعل فاعل، فما معنى أن تفاوض النقابات الأكثر تمثيلية في قطاع التعليم مثلا حول مطالب مع الحكومة وتتفق معها بل وتوقع محضرا بذلك وتدعو منخرطيها إلى تعليق الأشكال الاحتجاجية فلا تجد من يستجيب لندائها أو دعوتها؟؟ كيف حصلت على التمثيلية؟؟ ومن تمثل بالضبط؟ ولماذا الحراك التعليمي لم ينته رغم الاتفاق بين الحكومة والممثلين “الشرعيين” للشغيلة التعليمية؟ ولماذا هذه الهوة بين النقابات ومن يُفترض أن تكون صوتا تتكلم باسمه؟

تضعنا هذه الأسئلة وغيرها أمام معطى أولي لا مجال لإخفائه؛ وهو أن هذه الإطارات النقابية، ومثلها باقي المؤسسات التي تؤثث المشهد الديمقراطي ببلدنا فقد فيها المواطن ثقته، إذ لا يُمكن أن أنشئ تنسيقية للدفاع عن مطالب وانتزاع حقوق مشروعة للفئة التي أنتمي إليها إذا كانت لي الثقة في النقابة التي من واجبها الترافع عن حقوقي ومطالبي، وما يؤكد هذا الوضع هو العزوف عن الانخراط في المؤسسات النقابية والحزبية، وضعف نسب المشاركة في انتخابات اللجان الثنائية، وهذين المؤشرين، تأخذهما الدول التي تحترم نفسها وتقوم بتحليلهما والتفكير في معالجتهما لأنهما يضعانها أمام اختلال وعلة يؤدي استفحالها في الجسم الديمقراطي إلى هلاكه، وهنا نكون أمام إشكال يخص ليس فقط شرعية مؤسسة ما، وإنما يطعن في مشروعية الدولة نفسها مادامت في تعريفها الديمقراطي لا تعدوكونهاشكلا مؤسساتيا للسياسة بما هي تدبير وتسيير للشؤون العامة للمواطنين وتنظيم لها.

نعم، يُمكن الحديث عن شرعية دستورية وقانونية مع هذه المؤسسات، لكن ألا تسقط هذه الشرعية بعدم التزام هذه المؤسسات بالغاية التي من أجلها وُجِدت؟ إن “التنسيقيات” اليوم قبل أن تنتزع حقوقها؛ هي في الأصل؛ ودون أن تفكر في الأمر، تنتزع من هذه المؤسسات “المغشوشة” شرعيتها وتمنح لنفسها الشرعية الواقعية التي تتواجد على الأرض وليست على الورق، إننا أمام معادلة من الصعب على  الحكومة أو الدولة الحسم فيها، نظرا لأن الوضع المأزوم للعمل النقابي الممأسس يخدم “مصلحتها” وهي التي صنعته، وفي الآن نفسه هي أمام “تنسيقيات” تتفرخوتتمدد كرد فعل على ما آل إليه الحقل النقابي والسياسي من تمييع، وهي تنسيقيات من الصعب التفاوض معها أو إرضاؤها، وحركيتها غير قابلة للتحكم فيها، أو حتى احتواؤها كما يحصل مع الإطارات النقابية والحزبية الممأسسة.

والمتأمل في الحراك التعليمي الحالي يقف على هذا الأمر، إنه حراك غير متحكم في بدايته،وحركيته، وحتى نهايته، ومن الصعب على جهة ما أن تتولى قيادته، أو أن تركب على أمواجه، كما يتم الترويج له بسذاجة من طرف من يودون الهروب إلى الأمام دون إيجاد حلول حقيقية للأزمة، لماذا؟ لأن هذه الحركية قد يؤجج فتيلها غباء بعض المسؤولين عن القطاع بتصريحاتهم أو أفعالهم الانتقامية والتهديدية، كما قد يؤججها تحليل دقيق وفصيح لأستاذ عضو في إحدى التنسيقيات عبر مقطع صوتي في الواتساب أخذ حظه في الانتشار السريع والواسع داخل مجموعات الواتساب التي صارت تشكل فضاءات تعبوية وتوعوية وتقريرية في بعض الأحيان.

وهنا يمكن استحضار حديث الفيلسوف الألماني هيغل عن مكر التاريخ وحركيته الموجهة بفعل ما نضج واكتمل وصار بزوغه لازما، وينتظر فقط من يزيل عنه قشرته، إننا أمام حراك وتحول نمت بذرته في الخفاء، وتوفرت له من العوامل والظروف ما توفرت، وصار ظهور نبتته في العلن مسألة وقت فقط، والأساتذة داخل التنسيقيات يزيحون عن نبتته قشرة الأرض، والدليل على هذا، هو مدى صدمة الأساتذة أنفسهم وتفاجئهم بمسيرة 5 أكتوبر ونجاحها غير المتوقع، وما تلا ذلك من أشكال احتجاجية تفوق توقعات الفاعلين داخلها.

وعلى هذا الأساس، جاز لنا القول؛ إن تمييع الفعل النقابي وإفساده من طرف الدولة، لإسكات وإضعاف المعارضة والاجهاز على حقوق ومكتسبات المواطنين، هو بمثابة “سحر” – بما تعنيه كلمة السحر في السياق التداولي المغربي من معنى- انقلب تأثيره على صاحبه، أوليس الحفاظ على وجود القوى المعارضة في الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها سبيل لتقدم ورُقي هذه الدول؟؟ فكيف يُمكن أن أحسن من وضعيتي إذا لم أجد من يراقب عثراتي وسقطاتي ويوقف تغولي؟؟

إن المأمول في هذا الوطن الحبيب، هو أن تتكون جبهة مناضلة مكونة من جميع الفضلاء والشرفاء الديمقراطيين تكنس كل النفايات التي صارت رائحتها لا تُطاق، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، وعلى هذه الأرض شهداء قدموا أرواحهم كي يحيا الوطن.. فسلاما سلاما لهم.. ولا عاش من خان الوطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 5 أشهر

    عبد ربه رجل تعليم متقاعد واعلم جيدا الطريقة التي تمر عبرها الانتخابات المهنية بكواليسها وحيتياتها والنتيجة وكما يعلم الكل هو هدا الوضع الغير المقبول من طرف الكل ولن تنتج الا المسترزقين والعصابات . وانتم يا مهنيو القطاعات هم السبب . انتم من انتخبتم هؤلاء اللصوص فالفراغ يولد اللصوص . وانا استحضر بعض من التاريخ كانت فعلا مهزلة الانتخابات تمر فترة المخططات نقابي التعليم بالكدوب والتزمار لبعض اصدقاءهم وتارة بالطليب والتزاويك حتى يضمنوا وأصدقاء هم وتارة بالتزوير وبموافقة الدولة .

  • مراد ايمن
    منذ 5 أشهر

    ما غاب عنك صديقي هو ان هناك مخزن شريف يحرك خيوط اللعبة كلها، ولا شك أن هذه التنسيقيات التي تحدثت عنها كأنها بيديل حقيقي، وأنها ازاحت النقابات و...إلخ، هي عينها مخترقة من طرف المخزن الشريف، وما هي إلا أيام وستتشظى، ولا يبقى منها إلا الأسماء.

  • الباز
    منذ 5 أشهر

    فأرينا،يا من حرم الظلم عالى نفسه و جعله بين عباده محرما،عجائب قدرتك،في كل من يسعى إلى إدخال البلاد و العباد في دهاليس نفق أسود؛فقينا،يا ودود،يا عادل،يا جبار،يامنتقم مكرهم،و شرورهم،و اجعل اللهم كيدهم في نحورهم،و حسبنا الله و نعم الوكيل في كل من يسعى إلى خراب هذا البلد،و إذلال العباد !

  • عائشة
    منذ 5 أشهر

    مقال رائع يعكس ثقافة صاحبه ونهله من روافد متعددة عالمة وشعبية ... وتعكس وعيه بالسياق السياسي الذي تكون فيه المشهد الذي نعيشه الان بانتكاساته وتراجعه وقلبه للمعادلة الديموقراطية المتداولة في العالم... تحية عالية لك

  • لعبوب كبير
    منذ 5 أشهر

    اتمنى عودة الاساتذة الى اقسامهم في اقرب وقت ....واتخاذ اجراءات صارمة وقاسية في حق من يتلاعب بمصير التلاميذ ويحرض على العصيان المدني

  • مواطن غيور
    منذ 5 أشهر

    سبق أن قلنا أنه إذا لم يتم تحريك المياه الراكدة ومعالجتها بطريقة مهنية وعلمية سوف لن تكون هناك حياة حقيقية لكل الكاءنات المرتبط تواجدها بتلك العملية وتغيير المنهجية لاعطاء لكل من تربطه هذه العملية بحقه في العيش والإستمرارية كحق مفروض وواجب ،لان المستنقع يضر اكثر ما هو ينفع ،ضاهريا يبدو أن الحياة هناك مستمرة لكن لبعض الطفيليات والكاءنات التي تعيش في العفن واظف إلى ذالك بعض المفترسين وهم بمثابة حراس المستنقع لآ لشيء سوى للافتراس.هكذا هو مشهدنا السياسي والنقابي والجمعوي.ادن المفروض هو اعادت النظر في كل هذه التكثلات والتجمعات التي لاتنفع أكثر مما تضر العباد والبلاد.وهذا هو الورش الحقيقي للنهوض باوضاع البلد ومن يقطنها في جميع مناحي الحياة والقطع مع اساليب الاسترزاق والهيمنة وتهميش أغلب مواطني هذا البلد وتصنيفهم بالدرجات ثم استغلالهم من طرف نسبة ضئيلة التي تتحكم في كل شيء وتصادم البعض بالبعض في معارك مستمرة وتحت اعين من هم مهندسي تلكم السياسات الممنهجة.ادن لابد من مراجعة كل شيء لتحقيق أشياء كانت غاءبة في حقيقة الأمر.

  • MOHAMED MR HAMMOUCH
    منذ 5 أشهر

    التطور التكنولوجي(التواصل) فضح الاعلام الرسمي...في مسالة فساد الحكومات و الاحزاب والنقابات في المغرب...و الاعلام في الغرب المتوحش ...حيث انتقل دعم الصهيونية عند الشباب الى دعم للتحرر...

  • عبد الرحمان
    منذ 5 أشهر

    وماذا عن المتقاعدين ؟ ألا يستحقون زيادة تواكب موجة الغلاء ؟ من يدافع عن وضعيتهم؟

  • علمي عزالعرب
    منذ 5 أشهر

    العصبية والتعنث والراي الواحد لا يحل معضلة التعليم عليكم ان تبحثوا على الداء لتجدوا الدواء

  • كريمو
    منذ 5 أشهر

    كلامكم اصاب كبد الحقيقة واصل من فضلك فيلتواصل مثل هذا النقاش الصحي الديمقراطي ليتقدم بلدي إلى الأمام

  • طارق البوداني
    منذ 5 أشهر

    تبقى هذه وجهة نظر تتأسس على فكرة خاطئة، لنقل حق أريد به باطل، تُخون الأمين وتُؤمن الخائن، من الذي خان الشغيلة؟ أليس الذين ساهموا في نظام أساسي قاس يتهم الأستاذ بالتقصير والتهاون!؟... أليس من باع الشغيلة بثمن بخس؟! أليس التنسيقيات هي نبض قلب الاستاذ، كلنا خرجنا من منطلق أننا أساتذة، والرأي ينطلق من القواعد.

  • محمدالاروجي
    منذ 5 أشهر

    ظهر الباطل وزهق الحق لان اصحاب الشكارى هم الفائزون

  • زهير العلمي
    منذ 5 أشهر

    النقابات بالمغرب هي في الأصل مؤسسات تضم مجموعات من القوادين والعهرة يخدمون مصالح الدولة العميقة شأنها شأن كل الأحزاب المنضوية تحت لواءها

  • مغربي
    منذ 5 أشهر

    العمل النقابي تم إضعافه من جهتين: من جهة الدولة، التي أرادت من النقابات أن تكون بمثابة كلب الحراسة. من جهة النفسية النقابية السائدة في بلدنا، والتي ترى في العمل النقابي مجالا للاستفادة من الريع، والسعي لخدمة المصالح الشخصية.

  • غنام محمد
    منذ 5 أشهر

    هذا المقال يتكلم على نجاح مسيرة 5 اكتوبر الذي صدم الجميع، ففقدت الحكومة صوابها و بدأت ترتكب الاخطاء بالجملة و انحرفت على جادة الصواب. تماما كما افقدت الصهاينة صوابهم الضربة التي وجهتها لهم مقاومة غزة يوم 7 أكتوبر. اصبحت حكومة الكيان الصهيوني تزج بضباطها لمحرفقة غزة، و ترتكب إبادة جماعية للمدنيين غير آبهة بالقوانين الدولية و هذه الجرائم الشنعاء تسرع من عزلتها على مستوى العالم و تفضحها و تعريها و تضهرها على حقيقتها أمام العالم. كذلك تصرف الحكومة المغربية - الغير آبهة بمصلحة 8 ملايين من أبناء المغاربة و الغير معتبرة للحقوق المشروعة لرجال التعليم - فضح سريرتها أمام الشعب المغربي و أمام العالم و أظهر بالملموس بأن الساسة المغاربة ما هم سوى عصابة تصول و تجول و تعيت فسادا في هذا البلد على حساب حقوق الشعب المغربي و مستقبل ابنائه.

  • عمر
    منذ 5 أشهر

    تحليل دقيق وعميق. شكرا لك استاذي الكريم.

  • عبدالمجيد الشرقاوي
    منذ 5 أشهر

    الاساتدة قبلو الوضيفة بشروطها التعاقدية وانقلبوا عليها وهدفهم الوضيفة المستدامة بشروطها اىقديمة الجد مريحة والجد مكلفة فلا داعي للخطاب الوطنجي في الموضوع.....

  • Rachidrajamondial
    منذ 5 أشهر

    محمد الناجي احييك على صراحتك موضوعك ترفع له القبعة... كثر الله من امثالك

  • التفسير العلمي والتفسير الانطباعي
    منذ 5 أشهر

    الى صاحب المقال. مقالك اجوف من المفاهيم والنظريات التعلمية المؤسسة للتحليل .

  • Hassanrif
    منذ 5 أشهر

    تحياتي لنساء ورجال التعليم من هذا المنبر... يجب على كل القطاعات أن تاخد نفس النهج ولا تسمع لكلام النقابات كيفما كان نوعها ...

  • محمد
    منذ 5 أشهر

    سلمت يداك أيها الرجل فذاك عين العقل، لكن يبقى السؤال المحير هل الدولة تحتاج نقابات قوية و مهيمنة؟ أم تسعى لتفريخ أجسام مريضة يسهل التحكم بها عن بعد بواسطة الريع و الملفات السرية؟

  • منذ 5 أشهر

    فعلا هذا المقال يعطي شرح واضح لما وصلت اليه البلاد من فساد ، حتى كاد ان يفرغ الدولة برمتها من مضمونها التاريخي والثقاغي والفكري ، بحيث اصبح رؤوس الفساد ابطال حقيقيين يفتخر بهم وبقدراتهم المكرية ، حتى اصبحنا متخوفين من مصير وطننا الحبيب في ضل هذا التسيل المعلن ، كما قال على بن ابي طالب كرم الله وجهه، ( سكت اهل الحق على الباكل حتى صدق اهل الباطل انهم على حق .