وجهة نظر

الجزائر التي في خاطري.. أو حينما تكون الذاكرة أقوى من الفاعل السياسي

سنضيِّقُ واسعًا ممّا لاشكّ، إذا لخصّنا الجزائر في “بلاطو” رياضي حاقدٍ، أو في تحليل سياسي بئيسٍ يكيل التّهم “للمرّوكْ” يمينًا ويسارًا، برؤية تسطيحية لا تتجاوز حدّ الأنف من أصوات نشازة اختيرت بعناية، سَنحجرُ واسعًا، إذا اختزلنا الجار الشقيق في مجرد تدوينة لحفيظ الدراجي/ الشخص الذي يعيش صراعا مريرا مع نفسه وتدويناته وخرجاته المرتبكة خير دليل. من الظلم والاختزال الفجّ أن نختزل الجزائر في نظامٍ شنقريحيّ  كبرانيّ عابر في الزمن؛ ينتعش عن المشكلات الأمنية ويعيش على استدامتها لينهب ما تبقى من الآبار النفطية، ولم يصل للحكم إلا على ظهر دبّابة عسكرية، ويجتهد اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى ليوجه تناقضاته الهيكلية الدّاخلية للخارج بخلق عدوٍّ وهميٍّ متربّص اسمه “المروك” إذ تلوك الصالونات التحليلية الجزائرية لغة الحرب كما تلوك الخبز، والحقيقة أن وضع الجزائر الداخلي الراهني المنهك أعجز من أن يخوض حربا حقيقية.

إن الجزائر التي في خاطري تتجاوز كل هؤلاء جميعا، تتجاوز كل هذا التوتر العارض الطارئ، هي جزائر الهوية المشتركة، والتاريخ المشترك، واللغة، والدين، والثقافة، والعادات، والحدود المغلقة التي نأمل عودتها لطبيعتها ليتعانق الأصهار، وتتجدد العلاقات، وتعود للعائلات دفئها، وتنتعش الذاكرة واللحمة والدم والشعور من جديد بعد فترة فتور، لينتصر العقل والحكمة بدل الحقد المجاني.

إن الجزائر التي في خاطري هي جزائر (كاتب ياسين) الذي كان يعتبر الفرنسية غنيمة حرب، وهو  الذي سُئِلَ ذات يوم لماذا تكتب بالفرنسية فأجاب: أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين بأني لستُ فرنسيا. وهو صاحب “نجمة” التي قال عنها كبار النقاد إنها أجمل نص فرنسي لكاتب من أصل غير أوروبي عبر فيها كاتب ياسين عن فترة من الفترات الأليمة من حياة الجزائريين، وصاحب الروائع الأدبية الخالدة، وقد سخر قلمه لانتقاد مظاهر الفساد والاختلال في النظام الجزائري ومظاهر التطرف الديني.

الجزائر التي في خاطري هي جزائر (المعطوب الوَنّاس) المتمرد الذي اغتالته الميلشيات الظلامية غدرا أواخر التسعينيات بعد إطلاق ما ينيف عن سبيعن رصاصة في جسده؛ الونّاس ذلك الغريد الأمازيغي الفريد الذي زالت أنغامه الجميلة المسكونة بالهوية، وعبق الأرض، وريح البلاد تتحفنا، ولا زال كتابه السِّيرِيّ الموسوم بـــ”المتمرد” قطعة فنية جريئة تشبه إلى حد كبير النفس الذي كتب به محمد شكري “الخبز الحافي” انتصارا للمهمشين لتقارب البُنى الذهنية..

إنها جزائر (محمد أركون) في مشروعِ نقدهِ للعقل الإسلامي وهو الذي ترك وصية دفنه في المغرب قبل موته، وفي ذلك رسالة لمن يهمهم الأمر.

الجزائر التي في خاطري هي الربيع الأمازيغي أو (ثافسوث إيمازيغن) التي تجسد المحرقة التاريخية التي تعرض لها الجزائريين لأنهم انتفضوا ضد طمس هويتهم.

الجزائر التي في خاطري هي كتابات اللساني الكبير (مسعود صحراوي) الذي يعد من التأسيسيين القلائل الذين أرسوا الدرس التداولي اللساني في الثقافة اللسانية العربية الحديثة إلى جانب الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان ..

الجزائر التي في خاطري هي جزائر (عبد الله مرتاض) الناقد الموسوعي الفذّ الذي رفرفت روحه للأبدية قبل أشهر قليلة مخلفا وراءه إرثا نقديا زاخرا رصينا لا زال في حاجة لمن يضعه على مِشرحة القراءة والتفكيك والإضاءة..

الجزائر التي في خاطري هي كتابات (أحلام مستغانمي) الصوت الإبداعي النسائي المتفرد بلغتها الشعرية ونصوصها المائزة الناصعة في بوحِها..

الجزائر التي في خاطري هي جزائر (عبد القادر الجزائري) الثائر الذي ناضل ببندقيته من أجل حرية شعبه لآخر قطرة من دمه، وهو الذي قال عنه المؤرخ الجزائري (عبد المالك بن نبي) صاحب (شروط النهضة) إنه لم يقاتل من أجل البقاء وإنما كان يقاتل من أجل الخلود. وقد ظلت علاقته بالمقاومة المغربية وطيدة لم تنقطع عُرَاها..

الجزائر التي في خاطري هي الزوايا الصوفية التي كان يقصدها الكثير من “الفقراء” المغاربة وجدي الحاج عبد السلام رحمة الله عليه واحد منهم- ليتبركوا بأقطابها كالزاوية العلوية التي كان مقرها بمستغانم والزاوية الزيانية والطيبية ..الخ. هي نفسها الجزائر التي قصدها المغاربة من الريف على وجه التحديد حينما “شرقوا” العبارة التي لا زالت متداولة إلى اليوم في الأوساط المغربية الريفية، من أجل العمل في الضيعات الفلاحية والزراعية بعدم عملية استصلاح زراعي دشنها المستعمر في الثلاثينيات من القرن الماضي. وظل الكثير من هذا الجيل يحمل حنينه لهذه الفترة التاريخية. لقد كانت هذه الطريقة وسيلة لتحسين ظروف العيش كلما عصفت الأزمات الاقتصادية بالريف ولا زال الكثير من الأجداد يحملون ذكريات عن وهران وتلمسان وبجاية …الخ. وهذا جزء من الذاكرة لا يمكن للتشنجات السياسية اليوم أن تمحوه بأي حال. فذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرة الفاعل السياسي.

الجزائر التي في خاطري هم شعراء الجزائر وأدباؤها الذين غنوا للحرية ولإرادة الحياة. وهي نفسها مملكة نوميديا القديمة التي أنجبت كبار الفلاسفة أمثال أبوليوس/ أفلاي الذي كتب أقدم رواية في العالم وهي رواية (الحمار الذهبي)،  وفكرة الرواية المحورية لا تختلف عن فكرة المسخ والتحول لدى فرانز كافكا الروائي التشاؤمي التشيكي العالمي الذي كتب بالألمانية، وما خلفه أبوليوس وغيره من النوميديين هو إرث مشترك لنا جميعا في شمال إفريقيا يحق لنا أن نفخر به ولا يحق لأحد أن يحتكره لنفسه.

هي الجزائر نفسها التي أنجبت القديس والفيلسوف الأمازيغي (أوغسطينوس) ابن طاغست الذي توفي بمدينة عنابة في القرن الثاني الميلادي؛ الفيلسوف الشكّاك المعروف الذي شارك مشاركة فعالة في النقاش الفلسفي في عصره، وكان قسّيسا كبيرا، وشخصية مؤثرة في المسيحية، بل كان ملهما للكثير من الإصلاحات الدينية في المسيحية الغربية في الفترة الوسيطية. وقد كتب “اعترافاته” بنفس فلسفي لاهوتي جريء، على نحو ما تقتضي عقيدة الاعتراف بالخطيئة في المسيحية، وكتب كتابات في الرد على الأكاديميين وفلاسفة عصره، بل هناك من الدارسين من يذهب إلى القول بأن  الشك المنهج الديكارتي يرتدُّ بصورة طبق الأصل لشك أوغسطينوس الذي أخذه الفيلسوف العقلاني رينيه ديكارت وطوره في إطار نسقٍ فلسفيٍّ متكامل ابتداء من القرن السادس عشر  (1596-1650م).

الجزائر التي نحترمها هي جزائر (واسيني لعرج) الروائي الشاهق الذي أتحفنا بمنجزه الروائي البديع بلغته الشفيفة الشعرية التي لا يجيدها إلا هو. وهو الرجل الذي خرج فارا من بلده ليتنفس هواء الحرية في بلد أجنبي آخر بعدما استبيح دمه سنوات الظلام..

الجزائر التي في الخاطر هي جزائر الباحث الألمعي (مولود لمعمري) الباحث في اللسانيات الأمازيغية ابن القبايل الذي توفي في حادثة سير مشبوهة بعين الدفلى وهو في طريق عودته من وجدة بعد سقوط شجرة على سيارته بعد محاضرة جامعية ألقاها في وجدة حول الأدب الامازيغي سنة (1989) وهو نفسه الذي استكمل جزءا من دراسته في الرباط ليعود بعدها للجزائر، وكانت جنازته مهيبة في تيزي وزو بعد اغتياله السياسي هذا. جزائر (مولود فرعون) الأديب الشهيد الذي عبر عن الوجع الجزائري بلغته الأدبية البديعة، ووقف في وجه المستعمر لا يمتلك الا لغته وحروفه، وهو صاحب سيرة “ابن الفقير” التي قال عنها: كتبتها على ضوء شمعة ووضعت فيها قطعة من ذاتي..

سنضيق واسعا، لو ذهبنا نختزل الجزائر الشقيقة في تدوينات حفيظ الدراجي الذي يحتاج لمعاينة نفسية عاجلة في الآونة الأخيرة قبل أي شيء آخر أو في “بلاطوهات” صحافة البؤس المأجورة التي لا تعرف سوى الاصطياد في الماء العكر… إن الذي يجمع بين المغرب والجزائر هي الذاكرة والتاريخ، وهما عنصرا العناصر التي لا يمكن للسياسي أن يقفز عليها؛ ببساطة لأن ذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرة السياسي كما يقرر علماء الأنتروبولوجيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *