يعد العمل الجمعوي ركناً أساسياً في أي مجتمع يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والمشاركة الاجتماعية. في المغرب، شهد القطاع الجمعوي نمواً ملحوظاً خاصة بعد إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 ، إلا أن “الريع الجمعوي” برز كتحدٍ حقيقي حيث تستفيد العديد من الجمعيات من دعم وتمويلات متكررة دون تحقيق تأثير تنموي ملموس مما يعمق التبعية ويضعف الشفافية، وحيث يؤثر على مصداقية العمل الجمعوي ويعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
الريع الجمعوي: تعريف ومظاهر
يعتبر الريع الجمعوي حالة تتجلى عندما تحصل جمعيات معينة على تمويلات ودعم مالي متكرر، دون أن تتمكن من تنفيذ مشاريع ملموسة تحقق التنمية أو تترك أثراً إيجابياً على المجتمع. وترتبط هذه التمويلات في العديد من الأحيان بعلاقات شخصية أو سياسية مما يعزز النفوذ الشخصي على حساب الكفاءة والجودة في تنفيذ المشاريع. وأشارت تقارير صادرة عن المرصد الوطني للتنمية البشرية إلى أن حوالي 20% من التمويلات المخصصة للجمعيات تذهب إلى جمعيات لا تقدم الأثر المرجو، حيث أن هذه الجمعيات تفتقر إلى الآليات اللازمة لضمان تنفيذ المشاريع بفعالية، ما يؤدي إلى تبديد الموارد وتراجع التأثير التنموي للمبادرات الجمعوية.
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ودورها في بروز الريع الجمعوي
أطلق صاحب الجلالة الملك محمد السادس المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كمشروع استراتيجي وطني للحد من الفقر والهشاشة الاجتماعية وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين. وتجاوزت تمويلات المبادرة منذ إطلاقها 50 مليار درهم حيث تم تمويل أكثر من 42,000 مشروع على امتداد المملكة، حيث قدرت وزارة الداخلية أن هذه المشاريع شملت ما يزيد عن 10 ملايين مستفيد. لكن رغم هذا الحجم من التمويل لم يكن لها تأثير فعلي على معدل التنمية البشرية بالمغرب حيث واجهت المبادرة تحديات في ضمان الاستفادة الفعلية لكل الفئات المستهدفة. وتشير تقارير صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات إلى أن جزءاً من التمويلات المخصصة للمبادرة تم توجيهه إلى جمعيات تفتقر إلى المهنية والشفافية، مما أسهم في تفاقم ظاهرة الريع الجمعوي. وبينت التقارير غير الرسمية أن حوالي 45 % من المشاريع الممولة لم تكتمل أو تعثرت نتيجة لسوء التدبير ونقص الرقابة، مما أدى إلى نتائج غير مرضية على مستوى تحقيق الأهداف التنموية.
تأثير الريع الجمعوي على التنمية الاجتماعية والاقتصادية
للريع الجمعوي تأثيرات سلبية على التنمية الاجتماعية والاقتصادية، حيث يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية ويضعف جهود التنمية المحلية. وتشير دراسات اقتصادية إلى أن 10-15% من التمويل السنوي المخصص للجمعيات يذهب إلى مشاريع غير فعالة، ما يحرم الجمعيات التي تمتلك قدرات تنفيذية عالية من الدعم اللازم لتحقيق أهدافها. وبين تقرير حديث للمرصد الوطني للتنمية البشرية أن الريع الجمعوي يشكل عاملاً يعمق التفاوتات المجالية، حيث أن بعض المناطق تحصل على دعم غير عادل مقارنة بمناطق أخرى تفتقر إلى الموارد. ووفقاً لوزارة الاقتصاد والمالية فقد تم تخصيص 6 مليارات درهم سنوياً لدعم القطاع الجمعوي إلا أنه لا يحقق الأثر المنشود بسبب سوء التوزيع وغياب الشفافية في توجيه التمويلات.
تزايد الانتقادات وضرورة تعزيز الشفافية
أثارت ظاهرة الريع الجمعوي انتقادات واسعة من قبل المجتمع المدني ، حيث طالبت العديد من الهيئات بضرورة تعزيز الرقابة على آليات توزيع الدعم وتقييم أداء الجمعيات. فقد أظهرت تقارير هيئات رقابية أن نسبة كبيرة من الجمعيات المسجلة لا تقدم تقارير مالية دورية مما يثير الشكوك حول مدى شفافية التسيير. ويشير تقرير المجلس الأعلى للحسابات إلى أن عدم الالتزام بتقديم تقارير دورية يعكس ضعف الشفافية ويسهم في تعزيز الريع الجمعوي. كما تشير الإحصائيات إلى أن عدد الجمعيات المستفيدة من الدعم الحكومي بلغ حوالي 65 ألف جمعية برسم سنوات 2019 2020 و 2021 ، إلا أن عددًا محدودًا منها يحقق مشاريع طويلة الأمد ذات أثر اجتماعي واقتصادي.
الحلول المقترحة لمواجهة الريع الجمعوي
لمواجهة ظاهرة الريع الجمعوي، تبرز الحاجة الملحة لاعتماد تدابير فعالة تضمن توجيه الدعم إلى المشاريع التنموية ذات الأثر المستدام. أولاً، ينبغي وضع معايير دقيقة لاختيار الجمعيات المستحقة للدعم، حيث يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى في اعتماد نماذج تقييم موضوعية لمشاريع الجمعيات قبل صرف التمويلات. كما أن تعزيز الرقابة من خلال تفعيل أجهزة مراقبة مستقلة سيضمن متابعة أداء الجمعيات ويحد من حالات سوء التدبير. ويطالب الخبراء بضرورة وضع قواعد صارمة لإجبار الجمعيات المستفيدة من التمويل على نشر تقارير شفافة حول إنجازاتها المالية والعملية.
أما بالنسبة لتعزيز الشفافية، فإن اعتماد منصة رقمية وطنية تتيح للمواطنين متابعة توزيع التمويلات وسير المشاريع سيكون حلاً فعالاً يسهم في تعزيز الشفافية ويقلل من فرص استغلال التمويلات بطرق غير مشروعة. وأخيراً، ينبغي تشجيع الجمعيات التي تتميز بالكفاءة في تنفيذ مشاريعها على حساب الجمعيات التي تفتقر إلى القدرات، وذلك من خلال برامج تشجيعية وتحفيزية تستند إلى معايير الكفاءة والفعالية.
وفي الأخير يعد الريع الجمعوي تحدياً حقيقياً أمام جهود التنمية في المغرب، حيث يعيق تحقيق تنمية مستدامة تتجاوب مع احتياجات المجتمع. ورغم أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قد مثلت محاولة جادة لتحقيق التغيير، إلا أن بعض الاختلالات أسهمت في تفاقم ظاهرة الريع الجمعوي. ومن الضروري تبني إصلاحات جذرية تضمن توزيع الموارد بشكل عادل وفعال، بما يعزز مصداقية العمل الجمعوي ويحقق تنمية شاملة ومستدامة تعود بالفائدة على جميع المغاربة.