منذ تسلم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم يعيش حالة من الترقب والاضطراب والا يقين، بسبب تصريحاته وقراراته المفاجئة.
فقد أعلن الرجل الأول في البيت الأبيض عن عزمه ضم جزيرة غرينلاندا الدنماركية إلى السيادة الأمريكية، وبجعل كندا الولاية الواحدة والخمسين لأمريكا، كما أصدر عددا من الأوامر التنفيذية بفرض الرسوم الجمركية على الحلفاء والخصوم على حد سواء، و بتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، التهديد بالسيطرة على قناة باناما، وبتصريحه بفتح أبواب الجحيم في غزة، وبتهجير سكانها إلى كل من مصر والأردن وتحويل هذه المنطقة إلى ريفيرا الشرق الأوسط.
كل هذه الوقائع تساءل الحدود بين العقل والجنون، بين المنطق والعبث، بين الوضوح والغموض، والنظام والفوضى، وأي استراتيجية أو نظرية يعتمدها البيت الأبيض في سياسته الخارجية والعلاقات الدولية؟
لمحاولة فهم هذا النوع من السلوك والقرارات التي لا تتوافق مع مبدأ العقلانية في السياسات الاستراتيجية التي دأبت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، برزت إلى واجهة التحليلات السياسية ” نظرية الرجل المجنون”.
فقد نشرت مجلة فورين بوليس مقالا لأستاذ العلوم السياسية دانييل دابليو تحت عنوان” هل نظرية المجنون فعالة فعلا، حيث اعتبر الباحث أنه عندما ترشح ترامب للولاية الأولى في عام 2016، بدا في كثير من الأحيان رجلا مجنونا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأكد أن ترامب تبنى فكرة أن جنونا يتملكه من نوع مختلف، مشددا على أنه سيكون رئيسا من نوع مختلف لأنه كان على استعداد لأن يكون مجنونا بعض الشيء ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته.
واعتبرت روزان ماكمانوس أستاذة العلوم السياسية بجامعة ولاية بينسلافيا في مقال لها تحت عنون” حدود نظرية الرجل المجنون ” أن المحللين لا يملكون يقينا كافيا في شأن الطريقة التي سيعتمدها دونالد ترامب في التعامل مع معظم البلدان في ولايته الثانية، وهذا بالضبط ما يريده.
وتعود جدور هذه النظرية إلى مكيافلي، الذي أشار إلى” أن التظاهر بالجنون قد يكون حكيما للغاية في بعض الظروف” كما حدد في كتابه الأمير مواصفات الزعيم أو الأمير بقوله “أن الأمير مضطرا أن يعلم جيدا كيف يتصرف كالحيوان، فهو يقلد الثعلب والأسد، لكن الأسد لا يستطيع أن يحمي نفسه من الفخاخ، والثعلب غير قادر عن حماية نفسه من الذئاب. على المرء أن يكون ثعلبا ليواجه الفخاخ ويكون أسدا ليخيف الذئاب”
وفي عام1962 كتب عالم الرياضيات والاستراتيجي الأمريكي هيرمان كان في كتابه ” التفكير في ما لايمكن تصوره” أنه قد ” يكون من الفعال أن نبدو وكأننا مجانين بعض الشيء في حث الخصم على الانسحاب”
وقدم منظر الواقعية السياسية في العلاقات الدولية الأستاذ ريمون أرون في كتابه السلام والحرب بين الأمم سنة 1962″ أن الطبيعة غير المتناسبة للتهديد النووي لها تأثير في ردع المتحاربين عن الحرب الشاملة، وتشجيعهم على الاعتدال وردع كل منهم على الإضرار بالمصالح الحيوية للآخر”
ويقول أوليفي سميت أستاذ في أكاديمية الدفاع الدنماركية، “أنه ليس من السهل إقناع شخص ما بأنك على استعداد للمخاطرة بتدمير نفسك، ولكن التظاهر بالجنون يساعد على إعطاء المصداقية لهذا الموقف”
واعتبر أحد الباحثين أنه من المفيد أن ينظر إليك على أنك مجنون أو غير عقلاني بعض الشيء في العلاقات الدولية. أما توماس شيلينغ أستاذ الشؤون الخارجية والأمن القومي والاستراتيجية النووية والسيطرة على الأسلحة في جامعة ميريلاند، فقد اعتبر أن المفارقة في الردع تكمن في أنه ليس من المفيد دائما أن يكون المرء أو ينظر إليه على أنه عقلاني بالكامل وهادئ ومسيطر على نفسه.
وتقوم هذه النظرية على أن سلوك الرئيس يجب أن يقوم على الغموض وعلى عدم القدرة على التنبؤ، وعلى اتخاذ القرارات غير المفكر فيها، مما يدفع الخصم إلى التوجس والخوف من هكذا قرارات غير محسوبة التي يمكن أن تساهم في تدمير الدولة والقضاء على وجودها.
والتاريخ الحديث يمدنا بمجموعة من الممارسات في السياسة الدولية، التي لا يمكن فهما إلا من خلال نظرية الرجل المجنون، فقد شخص الممثل الكوميدي الشهير شارلي شبلان جنون هتلر في فلمه الديكتاتور العظيم وهو يلعب ببالون ضخم برأسه ورجليه، حيث ألمح إلى أن الرجل كان يلعب بالكرة الأرضية وليس بالكرة المنفوخة.
وقد اختبرت هذه النظرية في عهد الرئيس الأمريكي السابق ريشارد نيكسون، عندما أسر هنري كيسينجر لرئيس الوفد الفيتنامي في مفاوضات باريس إلى ” أن الرئيس الامريكي مصاب بالجنون، وإني أحاول دائما تهدئته حتى لا يقدم على عمل مجنون، حيث يريد أن يمحو فيتنام من الخريطة، وإذا سمع أنكم تماطلون في المفاوضات فإنني لن أستطيع السيطرة على جموحه، وقد يفعل أي شيء.
وفي أوج الحرب الباردة أطلق الرئيس الأمريكي في عام 1969 عملية ” الرمح العملاق” بإرسال قاذفات نووية على مقربة من الاتحاد السوفياتي من أجل الضغط على الرئيس بريجنيف وفيتنام الشمالية بتهديدهما بضربات نووية.
وفي سنة 1974 وبينما كان الرئيس نيكسون يستقل للمرة الأخيرة طائرة الرئاسة قبل نهاية ولايته، جرد من الحقيبة التي تحتوي على الخطط والرموز النووية المعروفة ب “كرة القدم النووية”
ومع الولاية الأولى للرئيس ترامب ظهرت من جديد إرهاصات نظرية الرجل المجنون، في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، حينما وصف عناد رئيس كوريا الشمالية ب” رجل الصواريخ الصغيرة سوف يسبب دمارا كاملا لبلاده، ونفس العقيدة استعملها مع حليفه وعدو صديقه كوريا الجنوبية أثناء المفاوضات التجارية حيث أسر لأعضاء فريق المفاوضات بأن يقولوا” هذا الرجل مجنون لدرجة أنه قد ينسحب في أي لحظة.
وقد أطلق كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي على واشنطن ترامب في الولاية الأولى بالبلدة المجنونة، واليوم لازال هذا التوصيف هو الأكثر وثوقية في فهم قرارات وتصرفات الرئيس ترامب.
ويعتبر دان هاميلتون الخبير في السياسة الخارجية بمعهد بروكينجز، إنها إحدى التكتيكات المجربة التي يتبعها ترامب لتضليل شريكه في التفاوض ووضعه في موقف دفاعي، لأنه يريد الحصول على صفقة أفضل لتحقيق أهدافه الحقيقية.
عبدالعالي بنلياس: أستاذ القانون العام بكلية الحقوق السويسي