أغنياء بلا وطن: حين تنفصل الثروة عن الانتماء

في المغرب اليوم، تتسع الهوة بين عالمين لا يلتقيان إلا في النشرات الاقتصادية أو المناسبات الرسمية، عالم القلة المترفة، الذين راكموا الثروة بلا عناء، وعالم الأغلبية التي تعيش على حافة الكفاف، محاصَرةً بين غلاء المعيشة وضيق الأمل.
هذه المفارقة لم تعد مجرد ظاهرة اجتماعية، بل تحوّلت إلى مؤشر على خلل بنيوي عميق يهدد فكرة الوطن نفسها، حين تصبح الثروة أداة للانفصال عن الأرض لا وسيلة لبنائها.
لقد نشأت طبقة من الأغنياء الجدد لا تشبه الأجيال السابقة من رجال الأعمال أو الصناعيين الذين صعدوا بجهدٍ ومخاطرةٍ وعرق. هؤلاء الجدد جاؤوا من “السماء”، من اقتصاد الريع والمحاباة والتوريث السياسي والمالي، لا من بوابة الإبداع أو العمل المنتج. ثرواتهم لم تنبت من تراب الوطن، بل من امتيازاتٍ معطاة لا مكتسبة، ومن صفقاتٍ غامضةٍ في مجالاتٍ يحتكرها القرب من السلطة لا الكفاءة في السوق.
يعيش هؤلاء في قصورٍ مغلقةٍ على أسوارٍ من الزجاج، ينعمون بكل أسباب الرفاهية، كأنهم في جزيرةٍ خارج الزمن المغربي. يسافرون للعشاء في بلدٍ والغداء في آخر، ويمتلكون حساباتٍ في الخارج تُدرّ عليهم أرباحًا تفوق ما يقدمه الوطن. أبناؤهم يتعلمون في مدارس ومعاهد أجنبية، فينشأون منفصلين عن وجدان البلد، غرباء عن همومه ومفرداته، لا يعرفون من المغرب سوى أنه “مكان الإجازة الصيفية” أو “أصل العائلة في الأوراق الرسمية”. أما استثماراتهم، فمعظمها يهاجر قبلهم. تُضَخّ الأموال في البورصات الأوروبية والشركات العالمية الكبرى، بينما يظل الاستثمار في الداخل مجرد واجهة رمزية تُستعمل لتلميع الصورة أو استرضاء الرأي العام.
هكذا تتحوّل الثروة إلى جدار عازل بين الغني والمجتمع، بدل أن تكون جسرًا للتنمية والمشاركة. لكن السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح اليوم هو: هل هؤلاء ينتمون حقًا إلى المغرب؟
إن ما يربطهم به ليس إلا ورقة هوية أو جواز سفر. أما جوهر المواطنة، فبعيدٌ عنهم كبُعد الأرض عن القمر. فالمواطنة ليست امتلاكًا لجنسية، بل هي إحساس بالمسؤولية والانتماء، والتزامٌ أخلاقي تجاه الجماعة. هي أن تشعر بأنك معنيٌّ بوجع الناس وفرحهم، لا أن تُشيّد جدرانك العالية كي لا تسمع أنينهم.
حين تصبح الثروة وسيلة للهروب من الوطن، فإنها تفقد معناها الإنساني، وتتحول إلى شكلٍ من أشكال الخيانة الهادئة. وما يزيد المفارقة مأساوية هو أن هذه الطبقة لا تكتفي بعزل نفسها عن الشعب، بل تحتكر الخطاب حول الوطنية والتنمية. تتحدث عن “الاستثمار في المغرب” و”الالتزام الاجتماعي”، بينما تسحب خيوط الأرباح إلى الخارج، وتُخفي الأرقام الحقيقية في الجنّات الضريبية. إنها طبقة تعرف جيدًا كيف تُجمّل وجهها أمام الكاميرات، لكنها عاجزة عن النظر في مرآة الضمير.
في المقابل، تواصل الطبقة الوسطى تآكلها بوتيرة مقلقة، بعد أن كانت هي العمود الفقري للاستقرار والإنتاج. فحين تنهار الطبقة الوسطى، وتعلو فوقها طبقة مترفة لا تنتج، وتغرق تحتها أغلبية مسحوقة لا تملك، يختل ميزان المجتمع، ويتحوّل الوطن إلى ساحة استهلاك لا إلى مشروع مشترك.
إن الثروة التي لا تصنع تنمية، لا يمكن اعتبارها مكسبًا للوطن. والمال الذي لا يعود نفعه على الناس، يصبح عبئًا أخلاقيًا على أصحابه، مهما زيّنوه بشعارات العطاء. أما أولئك الذين يكدّسون الأموال ويغلقون عليها في المصارف الأجنبية، فإنهم يراكمون خسارة معنوية أعظم من كل أرباحهم: خسارة الإحساس بالانتماء.
لقد آن الأوان لإعادة طرح سؤالٍ بسيطٍ وعميق: ما معنى أن تكون مغربيًا؟، وهل هي بطاقة هوية أم مشروع حياة؟، وهل هي ملكية أرض أم مشاركة في مصيرها؟
المغربي الحقيقي ليس من يملك أكثر، بل من يعطي أكثر. هو الذي يبقى في الوطن لا لأنه مضطر، بل لأنه مؤمن بأنه يستطيع أن يجعله أفضل. وإذا كانت المواطنة تقاس بالفعل لا بالقول، فإن كثيرين من أصحاب الثروات فقدوا الحق الأخلاقي في الحديث باسمها.
إن إعادة التوازن بين الثروة والانتماء، بين المال والعدالة، هي المعركة الحقيقية لمغرب المستقبل. فلا وطن يمكن أن ينهض حين يتحول بعض أبنائه إلى “مستثمرين في الخارج” و”غرباء في الداخل”. ولا عدالة يمكن أن تُبنى حين يختبئ الأغنياء خلف أسوارهم، تاركين البسطاء يواجهون الغلاء والبطالة وحدهم.
الوطن ليس فندقًا نغادره متى شئنا، ولا مطعمًا نختار فيه ما نحب. والوطن عقد أخلاقي، ومسؤولية مشتركة، ومن يفكّ هذا العقد باسم المال، فقد خسر أكثر مما ربح.
اترك تعليقاً