منتدى العمق

أسعار النفط تنهار عالميا… فهل من تفسير لاستقرار الأسعار المرتفعة في المغرب؟

في سابقة ليست جديدة، يواصل المواطن المغربي دفع أثمان مرتفعة للمحروقات رغم التراجع الحاد الذي تعرفه أسعار النفط الخام في الأسواق العالمية. فمنذ بداية الشهر، انهار سعر برميل برنت إلى أقل من 63 دولارا، مسجلًا بذلك أدنى مستوى له منذ أربع سنوات، بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية جديدة على مجموعة من الدول، مما أثار موجة من القلق العالمي حول تباطؤ اقتصادي مرتقب وانخفاض متوقع في الطلب العالمي على الطاقة. هذا التراجع جاء ليُضاف إلى قرار دول أوبك+، وعلى رأسها السعودية وروسيا، زيادة إنتاجها النفطي بمقدار يفوق التوقعات السابقة، مما فاقم من اختلال ميزان العرض والطلب ودفع الأسعار نحو الهبوط السريع.

ورغم كل هذه المستجدات الدولية، لم يشهد السوق المغربي انعكاسًا حقيقيًا لهذا الانهيار. ظلت أسعار المحروقات في محطات الوقود مستقرة، بل ومقاربة لمستويات ما قبل التراجع، مما أثار استياء شريحة واسعة من المواطنين وأعاد إلى الواجهة نقاشًا لم يُغلق منذ سنوات حول غياب الشفافية، واحتكار سوق المحروقات، وغياب المراقبة الفعلية للدولة. في الوقت الذي كانت فيه عدة دول تتحرك بسرعة لتمرير انخفاض الأسعار إلى المستهلكين، حافظ المغرب على منطق “التحرر المُقنّع” من رقابة الدولة، مما يعكس اختلالاً هيكليًا في العلاقة بين القرار السياسي والمصلحة العامة.

ما يزيد من تعقيد الوضع في المغرب هو التداخل الفج بين السلطة التنفيذية والمصالح الاقتصادية الخاصة. إذ يُعد رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، أحد أبرز الفاعلين الاقتصاديين في مجال توزيع المحروقات عبر شركته المعروفة، وهي من أكبر الشركات التي تستحوذ على الحصة السوقية في هذا القطاع. هذا الواقع، الذي قد يبدو في نظر البعض طبيعيًا في إطار النظام الليبرالي، يُثير جدلًا أخلاقيًا وسياسيًا كبيرًا، ويتناقض مع أبسط قواعد الحوكمة الجيدة والفصل بين السلط والمسؤوليات.

فهل يمكن لرئيس حكومة أن يتخذ قرارات سياسية تتعارض مع مصالحه الاقتصادية؟ وهل يمكن لمستهلك بسيط أن يثق في تسعيرة يتحكم فيها من يفترض أنه يمثل صوت الدولة والمجتمع؟ الإجابة تبدو أكثر وضوحًا حين نعلم أن مجلس المنافسة سبق أن أشار إلى وجود شبهات اتفاق ضمني بين شركات التوزيع على تثبيت الأسعار، وتحقيق هوامش ربح مفرطة لا تعكس واقع السوق العالمي. لكن الغريب أن هذا التقرير ظل حبيس الأدراج، ولم تعقبه أية خطوات عملية لإصلاح الوضع أو معاقبة المتورطين، ما يزيد من شعور المواطنين بالعجز أمام لوبي اقتصادي يتحكم في مفصل حيوي من مفاصل حياتهم اليومية.

وفي المقابل، فإن تجارب دولية عديدة أظهرت كيف يمكن لتدخل الدولة المنضبط أن يحمي القدرة الشرائية للمواطنين دون المساس بمبادئ الاقتصاد الحر. ففي فرنسا على سبيل المثال، ورغم تحرير الأسعار، سارعت الحكومة إلى فرض ضريبة استثنائية على الأرباح المفاجئة لشركات الطاقة خلال فترة ارتفاع الأسعار، مع توجيه تلك الموارد لدعم الفئات الهشة. أما في المغرب، ورغم تعدد الدعوات لفرض ضرائب تضامنية على شركات المحروقات التي حققت أرباحًا خيالية خلال الأزمات، إلا أن الحكومة ظلت تتجاهل هذه الاقتراحات، مما يُعزز الانطباع بوجود تواطؤ أو على الأقل غياب إرادة سياسية حقيقية للتدخل العادل.

من زاوية القانون الدستوري، يطرح هذا الوضع إشكالًا كبيرًا يتعلق بمبدأ تعارض المصالح الذي تنص عليه مختلف المواثيق والمعايير الدولية، بل وحتى بعض الفصول الدستورية الوطنية. فالجمع بين المسؤولية الحكومية ومصالح خاصة مباشرة في قطاع حيوي يُفترض أن يخضع لتنظيم صارم، يمثل خللًا بنيويًا يهدد توازن القرار العمومي. ويُعد التغاضي عن هذا التعارض بمثابة شرعنة لتقاطع النفوذ السياسي والاقتصادي، بما يضرب في العمق أسس الحوكمة الديمقراطية ويُضعف موقع الدولة كضامن للمصلحة العامة.

هذه الوضعية لا يمكن فصلها عن أزمة أعمق تعيشها الدولة المغربية، وهي أزمة الثقة في المؤسسات والعدالة في توزيع الأعباء والفوائد. ففي الوقت الذي يُطالب فيه المواطنون بالصبر وشد الحزام في مواجهة الغلاء، تستمر الشركات الكبرى في تحقيق أرباح ضخمة على حساب جيوب الطبقة المتوسطة والفقيرة، دون حسيب أو رقيب. كما أن الخطاب الحكومي، الذي يُروج لمنطق “السوق هو من يحدد السعر”، يفقد مصداقيته حين يكون السوق نفسه تحت هيمنة فاعلين قليلين، يملكون أدوات التأثير السياسي والاقتصادي في آن واحد.

إن الرهان اليوم لم يعد مرتبطًا فقط بسعر اللتر في المحطة، بل أصبح رهانا على مستقبل الدولة الاجتماعية ومفهوم الحياد المؤسساتي الذي يجب أن يُميز الدولة عن الفاعل الاقتصادي. لذلك فإن أي إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ بفصل المصالح التجارية عن القرار السياسي، وإحداث آلية وطنية مستقلة لتقنين وضبط أسعار المحروقات، وربطها فعليًا بالسوق الدولية، مع ضمان الشفافية الكاملة في سلاسل التوريد والتوزيع.

إن استمرار هذا الوضع على حاله سيؤدي لا محالة إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي، وقد يُفقد الدولة ما تبقى من مصداقية في نظر المواطن. فحين تتقاطع السياسة مع السوق دون ضوابط، يكون المواطن هو الخاسر الأكبر. ولا يمكن بناء مغرب متوازن ومستقر في ظل هذا النوع من التواطؤ غير المعلن بين الفاعل الحكومي والمصالح الاقتصادية الكبرى.