في قلب النقاشات المجتمعية الدائرة حول المساواة بين الجنسين في المغرب، يُطرح سؤال ملح: هل ما زالت مقاربة النوع إطارًا ناظمًا لبناء التوازن الاجتماعي، أم أننا أصبحنا بصدد مفارقة نوع، يتغذى على سوء الفهم والتوتر الإيديولوجي، ويغذي بدوره خطابًا متشنجًا يعيد إنتاج التمييز في صور جديدة؟ هذا السؤال يزداد راهنية في ظل ارتفاع حدة التجاذب بين الذكور والإناث، سواء في الفضاء العمومي أو الرقمي، في تعبير واضح عن انزياح النقاش من دائرة المطالبة بالحقوق إلى صراع هويات مضادّة.
لقد راهن المغرب، خلال العقدين الأخيرين، على إدماج مقاربة النوع في السياسات العمومية، انطلاقًا من تعديل مدونة الأسرة وما تبعها من إجراءات قانونية ومؤسساتية. غير أن الممارسة المجتمعية كشفت عن بروز نوع من المفارقة: في الوقت الذي تم فيه تمكين المرأة قانونيًا، لم تتطور الأدوات الثقافية والأنساق الذهنية بالقدر الكافي، مما أنتج نوعًا من التوترات المجتمعية ذات الطابع النوعي، خاصة في السياقات المرتبطة بالأسرة، السلطة، والتعبير عن الأدوار.
أصبح الصراع النوعي اليوم أكثر ظهورًا من أي وقت مضى، يتغذى من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر الخطابات الشعبوية التي تكرّس ثنائيات الخصومة وتؤسس لفهم انتقامي للعلاقات بين الجنسين. لا يُنظر للمرأة كفاعل اجتماعي مستقل، بل كخصم في معركة هيمنة رمزية، ولا يُنظر للرجل كشريك، بل كمصدر لكل أشكال القهر، حسب بعض الخطابات.
واقعة “قائد تمارة” و”فتاة أطلق عليها بنت الشعب”، التي انتشرت عبر منصات التواصل، تكشف بشكل رمزي هذا التعقيد. لم يكن الأمر مجرد صدام عابر بين ممثل سلطة وفتاة، بل مثّل مرآة تعكس احتقانًا نوعيًا يتجاوز الحادثة في ذاتها. فقد تم تحميل الواقعة تأويلات متعددة، حسب الخلفيات الإيديولوجية للمعلّقين. البعض رأى فيها اعتداء سلطويًا على الكرامة النسائية، وآخرون اعتبروها دليلاً على تمرد متزايد على السلطة بمختلف تمظهراتها، فيما اعتبرها آخرون صراعًا بين السلطة الذكورية والتمثلات النسوية الجديدة. هذه الواقعة تؤكد أن فهم الحادثة يتجاوز الظاهر، ويستوجب مقاربة سوسيولوجية شاملة تقرأها ضمن سياق صراع أدوار يطال المجالين العام والخاص.
من جهة أخرى، لا يمكن فصل هذا التوتر عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية. دخول النساء بقوة إلى سوق الشغل وتقلدهن لمناصب المسؤولية، أربك الأدوار التقليدية، وخلق نوعًا من القلق الهوياتي لدى فئات من الرجال. وفي غياب ثقافة مجتمعية دامجة لهذه التحولات، تحوّلت المطالب الحقوقية إلى ساحة صراع عاطفي، يتغذى من الإحساس بالغبن، ويفتقر إلى تحليل عقلاني يوازن بين الإنصاف والواقعية.
وفي الوقت ذاته، فشلت كثير من المنابر الإعلامية، وحتى بعض الحركات النسائية والرجالية، في بناء خطاب وسطي قادر على رأب الصدع. بين نسوية راديكالية تنظر للرجل كخصم أبدي، ورجولية انتقامية تعتبر التمكين النسائي تهديدًا وجوديًا، ضاع صوت العقل، وانقلب الترافع إلى تحريض، والتحليل إلى تصنيف، والحوار إلى خصام.
المطلوب اليوم هو العودة إلى جوهر العلاقة الإنسانية، عبر تبنّي مشروع مجتمعي يعيد الاعتبار لمفهوم “الشراكة النوعية”، بدل “المقابلة الصراعية”. مقاربة النوع ليست معركة كسر عظام، بل مدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية في أبعادها الشمولية، بما يخدم استقرار الأسرة، ويُحصّن السلم المجتمعي، ويؤسس لثقافة الاحترام المتبادل بين الطرفين.
إن مستقبل المغرب لن يُبنى على الانتصار لطرف على حساب الآخر، بل على وعي جماعي يُدرك أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست علاقة غلبة، بل شراكة وجودية قائمة على التعاون، والمسؤولية المشتركة، والتقدير المتبادل. لقد آن الأوان لتصحيح المسار: من مقاربة النوع إلى تكامل النوع.
* باحث في العلوم الاجتماعية والقانونية