وجهة نظر

قانون منع التدخين في المقاهي بالمغرب بين دوافع التفعيل و خلفيات التأجيل

يعتبر قانون منع التدخين في الأماكن العمومية ( 91/15) المصادق عليه من طرف مجلس النواب في 29أبريل 1991 من بين أهم القوانين المغربية الملتصقة بشكل كبير بالصحة العمومية من خلال حماية الأفراد من بعض أخطر الأمراض فتكا المتمثل في السرطان بمختلف أشكاله وعلى رأسها سرطان الرئة بالإضافة إلى أن هذا القانون يؤطر بشكل عميق مظاهر الحياة الاجتماعية اليومية المتمثلة في التفاعل مع التدخين الذي أصبح ظاهرة اجتماعية تكتسح مختلف المرافق العمومية والفضاءات المختلفة من مؤسسات إدارية ومستشفيات صحية عمومية وخاصة ، ومؤسسات تعليمية عمومية وخاصة، ووسائل نقل عمومية وخاصة ، وقاعات العروض العمومية والخاصة ،بالاضافة إلى الشوارع والأزقة وغيرها من الفضاءات …..لكن على الرغم من هذه المظاهر الشمولية لهذا القانون ، فهو لم يتم العمل على نشره بالجريدة الرسمية إلا بتاريخ 6 يونيو 1996 أي بعد أربع سنوات من المصادقة عليه من طرف البرلمان ومازال لم يتم تفعيل كل مقتضياته لحد الآن أي بعد مرور أكثر من 30 سنة . – تفعيل مقتضيات قانون منع التدخين في الأماكن العمومية.

يتضمن قانون منع التدخين في الأماكن العمومية مجموعة من المقتضيات التي لا تهم فقط منع التدخين في الأماكن العمومية ، بل أيضا حظر الإشهار لمادة التبغ ومعاقبة مختلف أشكال الدعاية لها . مما يعكس إرادة خفية في تعويم هذا المنع ضمن مقتضيات كان يمكن أن يخصص لها قانون خاص بها . لكن على الرغم من هذا التعويم المبيت ، فقد نص هذا القانون في مادته الثانية على منع التدخين في أماكن عمومية حددها على سبيل المثال لا الحصر في “المكاتب الإدارية المشتركة وقاعات الاجتماعات بالإدارات العمومية والشبه عمومية والخاصة وكذا المستشفيات والمصحات ودور النقاهة والمراكز الصحية والمصالح الوقائية بجميع أصنافها بالإضافة إلى منع التدخين في وسائل النقل العمومي باستثناء المناطق المخصصة للتدخين ، وقاعات العروض الفنية من مسارح ودور السينما وأماكن إحياء السهرات وإلقاء الدروس والمحاضرات والندوات”.

وقد بدأ العمل بالتدريج على منع التدخين في بعض هذه المرافق ، حيث اتخذ المكتب الوطني للسكك الحديدية مبادرة تعميم منع التدخين بعربات القطارات التابعة له بعدما كان يقوم بالسماح بالتدخين في بعضها ، في حين منع التدخين في محطات المسافرين خاصة التي تم إعادة تأهيلها وتجديدها مخصصا بعض الفضاءات داخلها للتدخين فيها . كما منع التدخين في المطارات وبالطائرات ، في حين قامت بعض وسائل النقل العمومية من حافلات وغيرها بمنع التدخين بها بينما بقيت وسائل النقل العمومي الصغير مرهونة بمزاجية سائقي الطاكسيات وردود فعل الزبناء . أما بالنسبة للإدارات العمومية وشبه العمومية فما زالت تتأرجح بين المنع المعلن والتدخين بشكل خفي. بينما لم تعلن وزارة الصحة المعنية بالأساس بهذا القانون ، مرافقها بدون تدخين إلا في سنة 2021 وذلك في إطار حملة توعية بمضار التدخين التي نظمتها ما بين 31 ماي و30 يونيو من نفس هذه السنة .

من هنا يبدو أن تفعيل مقتضيات هذا القانون كانت بشكل تدريجي ومزاجي والذي ينعكس بجلاء من خلال ندرة الأحكام القضائية الصادرة بهذا المجال . إذ على الرغم من أن هذا القانون من خلال مادته 11 التي تنص على ” أن كل شخص ضبط يدخن التبغ أو المواد المكونة له في الأماكن التي يمنع فيها ذلك ، يعاقب بغرامة من 10 دراهم إلى 50 درهما” فلم يصدر لحد الآن أي حكم بهذا الصدد ولو على سبيل العبرة والاعتبار . وقد يفسر ذلك بعدم تقديم شكايات أو رفع دعاوى بهذا الشأن وعدم الوعي بخطورة هذا “الجرم الصحي” نتيجة لانخفاض عدد حملات التوعية والتحسيس التي نصت عليها المادة 10 من القانون والتي أكدت على ” ضرورة أن تقوم الإدارة بتعاون مع المنظمات غير الحكومية بتنظيم حملات وقائية وإعلامية تستهدف توعية المواطنين بمضار التدخين “. فباستثناء بعض الحملات التي تقوم بها وزارة الصحة بمناسبة اليوم العالمي لمنع التدخين وبعض المناظرات الوطنية حول مضار التدخين ، كالمناظرة الوطنية حول مضار التدخين التي نظمت في سنة 2013 بتعاون مع منظمة للا سلمى لمحاربة السرطان ،فليس هناك أي اهتمام من طرف مختلف الإدارات سواء الصحية أو الترابية أو الإعلامية للتحسيس بخطورة هذه الظاهرة ومضار التدخين في الأماكن العمومية خاصة المقاهي .. – قانون منع التدخين في المقاهي-

من اللافت للنظر بل من المستغرب أن تتغافل المادة الثانية في عرض الأماكن العمومية التي يمنع فيها التدخين التي ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر عن الإشارة إلى المقاهي ضمن هذه الأماكن العمومية رغم ذكرها لدور السينما وقاعات العرض المختلفة. فإذا ما انطلقنا بحسن نية المشرع بصعوبة ذكر كل الأماكن والمرافق العمومية ، فمن الصعب الاقتناع بإغفال ذكر فضاء عمومي أساسي يرتاده المغاربة بشكل يومي ويدخل في صميم حياتهم الاجتماعية و ثقافتهم الجماعية . فإذا كان ارتياد مختلف المؤسسات الإدارية والمستشفيات الصحية والتعليمية بل وصالات العرض يكون بشكل ظرفي أو استثنائي تقتضيه ضرورة قضاء أغراض إدارية والحصول على خدمات مؤقتة ، فإن ارتياد المقاهي والجلوس لفترات طويلة سواء لارتشاف قهوة الصباح أو المساء أو في أي وقت من النهار، أو لتجاذب أطراف الحديث أوللتفرج الجماعي في مباريات كرة القدم طيلة أيام الأسبوع كان يقتضي أن يتم ذكر المقاهي ضمن القائمة الأولى التي وردت في هذه المادة من القانون . مما يثير التساؤل عن دور جهات خاصة ، والتي يمكن أن تتمثل في شركات التبغ و لوبيات أرباب المقاهي بقوتها العددية والمالية والاقتصادية، في الضغط بقوة كي لا يتم التنصيص على ذكر المقاهي ضمن الأماكن العمومية المشمولة بهذا القانون .

ولعل ما يعزز هذا المعطى هو أنه لأكثر من 30 سنة على تنفيذ مقتضيات هذا القانون ، فلم يتم لحد الآن تفعيل مقتضيات المادة الخامسة من هذا القانون التي تنص على ” أنه علاوة على الأماكن الوارد ذكرها في المادة الرابعة يمكن للإدارة أن تقرر منع التدخين بأماكن ومرافق أخرى إذا اقتضت الظروف الصحية ذلك”. فإذا كان التنصيص على هذه المادة يؤكد بجلاء الهروب للأمام الذي نهجه المشرع ، لكي لا يتم ذكر أماكن عمومية أخرى كالمقاهي والمطاعم ويترك الحرية الكاملة لتهرب أرباب المقاهي من الخضوع لهذا القانون ، فقد ظهر أيضا أنه لم يتم تحديد هوية الإدارة التي ستقوم وفق المادة 5 باتخاذ قرار منع التدخين في “أماكن ومرافق أخرى” هل هي مصالح وزارة الداخلية التي تمنح رخص فتح المقاهي والمطاعم أو الجماعات المحلية التي تحصل ضرائب من هذه المحلات ، أو المصالح الطبية التابعة لهذه الوزارات من عمالات ومراكز طبية أم وزارة الصحة التي أشارت لها هذه المادة من خلال “اشتراط الظروف الصحية” . لكن كيفما كان الحال فقد بقيت مقتضيات هذه المادة غير مفعلة رغم كل الظروف الصحية المستجدة والتي أثبتت أن مضار التدخين لا تشمل فقط المدخنين المباشرين بل أيضا ما سمته بالمدخنين السلبيين . وبهذا الصدد ، فقد أكد الطبيب فؤاد بن علو المختص في التربية الصحية ب”أن منع التدخين في الفضاءات العمومية بات مطلوبا بشكل كبير نظرا لما تخلفه هذه الآفة من أضرار صحية وجسدية على المدخن وعلى المحيطين الذين يعتبرون مدخنين سلبيين ” ولعل هذا ما أكدته إحدى تقارير وزارة الصحة بالمغرب ، الذي اعتبر أن %35 من الساكنة بالمغرب
تتعرض للتدخين غير المباشر.ومما يزيد من تأكيد وجود لوبي ضاغط داخل مؤسستي البرلمان والحكومة ، هو تجميد مقترح قانون تقدم به الفريق الاستقلالي في سنة 2007 يتجاوب مع الظروف الصحية المستجدة التي عرفتها المملكة ، والذي تم التنصيص في مادته الرابعة على إضافة كل من” أماكن الاستراحة والساحات الداخلية للمؤسسات التعليمية والمقاهي والمطاعم التي تقل مساحتها الاجمالية عن 50 مترمربع” إلى الفضاءات العمومية التي يمنع فيها التدخين “بصفة مطلقة”. مشيرا في المادة الرابعة مكرر إلى إمكانية تخصيص ” المقاهي التي تزيد مساحتها عن 50 مترمربع نصف مساحتها الإجمالية لغير المدخنين حيث تكون هذه الأمكنة معزولة وبشروط تهوية صحية تحدد مواصفاتها بقرار السلطة المكلفة بالصحة العمومية” .

كما رفع هذا المقترح من قيمة الغرامات التي يعاقب بها المخالفون من “100 درهم إلى 200 درهم في حالة العود وإلى 500 درهم إذا كان المخالف مسؤولا عن محل المخالفة” لكن رغم المصادقة بالاجماع على هذا المقترح في 23 يوليوز 2008 ، فلم يتم إخراجه لحيز التطبيق في ضرب صارخ للمؤسسة التشريعية وهيبتها السياسية . وقد أعاد الفريق الاشتراكي هذه الكرة التشريعية من خلال تقديم مقترح قانون بهذا الشأن في سنة 2013 ينص على إضافة بعض الأماكن الأخرى التي يقترح منع التدخين فيها من ( مصاعد ، ومنشآت صناعية ومراكز التسويق التجاري ، وأندية رياضية ، ومطاعم ومقاهي وكل الأماكن التي تباع فيها الماكولات والمشروبات…مع تشديد العقوبة على المخالفين برفع قيمة الغرامات من 500 درهم إلى ألف درهم ” .

لكن هذا المقترح استبعد من طرحه للنقاش من طرف الحكومة و”تم إقباره بعد تحرك لوبيات شركات التبغ داخل المؤسسة التشريعية “وبمساندة خفية من لوبيات أرباب المقاهي والمطاعم . من هنا يطرح تساؤل عريض حول إلى أي حد يمكن لدولة حركت مؤسساتها العسكرية والإدارية والصحية لمواجهة تداعيات وباء عالمي لم يفتك لحد الآن سوى ب 16 ألف من ساكنة المغرب طيلة أكثر من سنتين في الوقت الذي يودي التدخين بحوالي 17 ألف سنويا . بل لقد قدرت دراسة أنجزتها وزارة الصحة بالمغرب بأن العدد قد يصل إلى 60 ألف في السنة، وما زالت لم تمتلك الإرادة السياسية الحاسمة لكي تحمي مواطنيها من هذا الوباء اليومي المنتشر في مختلف الأماكن والفضاءات العمومية وخاصة بالمقاهي بمختلف أشكالها وأحجامها ، وما زالت رهينة لابتزاز وضغوط لوبيات التبغ التي على الرغم من تفويتها للقطاع الخاص الأجنبي ، فما زالت تخضع لقوته المالية بدليل عدم اتخاذ أي إجراءات صارمة على غرار كل الدول الأوربية وحتى العربية والإسلامية كتركيا و الإمارات العربية المتحدة والسعودية ولبنان وقطر… التي منعت التدخين في كل الأماكن العمومية وبالأخص في المقاهي والمطاعم .

إذ ما زالت المملكة المغربية التي كانت سباقة في المنطقة العربية والمتوسطية إلى إصدار قانون منع التدخين في الأماكن العمومية تعتبر من ضمن الدول الأكثر استهلاكا لكل أنواع التبغ بما فيها السجائر المهربة والسجائر الإلكترونية بالإضافة إلى الشيشة وتنتشر آفة التدخين بين صفوف كل الأوساط العمرية خاصة فئات الشباب بمختلف المستويات الاجتماعية التي يمكن أن تقتني سجائر عبر ما يسمى بالتقسيط (أو الدتاي) الذي يعتبر نظاما في بيع السجائر خاصا بالأساس بالمغرب. في حين انتشرت هذه العادة المميتة بين صفوف حتى النساء بمختلف الأعمار ، بعدما كان التدخين مقتصرا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي على فئات خاصة من النساء بحكم طابوهات المجتمع آنذاك. ولعل هذا ما يجعل النساء المدخنات في المغرب ورغم ادعاء التحرر يفضلن التدخين في طوابق المقاهي أو الأماكن الخلفية فيها مع ما ينجم عن ذلك من مضار تمس بأنوتثهن بعدما تتحول أصواتهن إلى أصوات خشنة وذكورية ، وبمظاهر جمالهن بعدما يعلو اصفرار دخان السجائر أسنانهن و شفاههن وبصحتهن بعدما يتعرضن إلى مختلف أنواع السرطانات التي تصيب أجسادهن وكذا محيطهن إذا كان لديهن رضعا أو أطفال .

وفي انتظار أن تسارع حكومة عزيز أخنوش إلى نفض الغبار عن قانون منع التدخين في الأماكن العمومية المصادق عليه بالإجماع في سنة 2008 والذي سبق أن قدمه الفريق الاستقلالي الذي يشكل حزبه أحد مكونات الحكومة الحالية ، يمكن لأرباب المقاهي في خطوة استباقية وضمن ثقافة المقاولة المواطنة أن يشرعوا في اتخاذ تدابير تهم إما منع التدخين بشكل مطلق داخل المقاهي أوتخصيص حيز من هذه المحلات لغير المدخنين من الزبناء حماية لهم من كل الأضرار التي يسببها دخان الزبناء المدخنين . في حين يمكن لبعض فعاليات المجتمع المدني بمساعدة من السلطات المحلية أن تنظم حملات متواصلة للتوعية بمخاطر التدخين بالمقاهي تحت شعارات معبئة ( سيجارتك تقتلك وتميتني ، سيجارتك انتحار لك وهلاك لي، دخان سيجارتك خطر على صحتي إلى غير ذلك من الشعارات….) كما يمكن للإذاعات المحلية والقنوات الوطنية وشبكات التواصل الاجتماعي أن تنسق من أجل التوعية بمخاطر التدخين بالمقاهي وما يسببه من إزعاج لغير المدخنين وما ينجم عن ذلك من احتكاكات بين الزبناء التي قد تبدأ بمشادات كلامية لتنتهي بتبادل السب وربما اللكمات لتتحول إلى نزاعات أمام مراكز الشرطة وردهات المحاكم . كما يمكن لوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية أن تخصص بعض خطبها الجمعية أو الوعظية للحث عل عدم التدخين في هذه الاماكن في إطار إماطة الأذى وعدم الاضرار بصحة المسلمين .