وجهة نظر

من “الإرهاب” إلى “الفاعل السياسي”: تحولات الجولاني ومأزق المفاهيم الغربية في مواجهة التمكين

عبد الفتاح الحيداوي

تُظهر مسيرة أحمد الشرع، المعروف بأبي محمد الجولاني، دينامية معقدة في تشكّل الحركات الجهادية وتحوّل قادتها عبر العقود الأخيرة. فمنذ انخراطه المبكر في العراق بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003 ضمن صفوف المقاتلين المرتبطين بتنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”، مرورًا بتزعمه لـ”جبهة النصرة” في سوريا كأحد أبرز فروع القاعدة في المنطقة، وصولًا إلى قيادته “هيئة تحرير الشام” التي أعادت صياغة خطابها السياسي والفكري لتقديم نفسها كفاعل محلي “وطني” يسعى لإدارة شؤون الشمال السوري، لا كتنظيم جهادي عابر للحدود؛ تتبدى ملامح مسار شخصي وتنظيمي بالغ الدلالة.

هذا التحول لا يمكن قراءته فقط في إطار “التكتيك السياسي” أو “البراغماتية التنظيمية”، بل يعكس أيضًا قدرة الجولاني على إعادة توظيف المفاهيم والرموز المرتبطة بالحركة الجهادية بما يتلاءم مع السياقات المتغيرة. ففي حين عُدّت جبهة النصرة منذ تأسيسها عام 2012 امتدادًا مباشرًا للقاعدة، مصنّفة ضمن قوائم الإرهاب الدولي، نجد أن قيادتها لاحقًا سعت لإبراز وجه مغاير يُحاكي الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين على السواء، في محاولة للتدرج من “الحركة الجهادية” نحو “الحركة السياسية”.

إن قراءة تجربة الجولاني تتيح مقاربة أوسع لمسألة مرونة الظاهرة الجهادية، وقدرتها على التكيف مع الضغوط العسكرية والسياسية، كما تثير أسئلة عميقة حول الحدود الفاصلة بين “الإرهابي” و”السياسي”، بين “العابر للحدود” و”المحلي”، وبين “العدو” و”الفاعل الشرعي”. فالتجربة تكشف أن ما يُوسم في لحظة تاريخية بأنه تهديد إرهابي مطلق، قد يُعاد تأطيره في لحظة أخرى باعتباره شريكًا محتملًا أو فاعلًا لا يمكن تجاوزه في الترتيبات الإقليمية.

ومن هنا، فإن دراسة مسار أبي محمد الجولاني لا تمثل مجرد تحليل لشخصية قيادية مثيرة للجدل، بل تفتح أفقًا أوسع لفهم تحولات الحركات الجهادية في المشرق العربي، واستيعاب ديناميات الصراع بين المحلي والدولي في سياق الحرب السورية، بما تحمله من انعكاسات على الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء.

المحور الأول: أزمة التصنيف في دراسة الإرهاب

تُعد إشكالية تصنيف الإرهاب من أكثر القضايا تعقيدًا في الدراسات الأمنية والسياسية، إذ تعكس غياب الإجماع المفاهيمي واستحالة التوصل إلى تعريف واحد جامع ومانع للظاهرة. هذا الغياب لا يرتبط فقط بتعقيد الظاهرة نفسها، وإنما أيضًا بتداخل الاعتبارات السياسية والقانونية والأمنية في إنتاج الخطابات والمعايير المرتبطة بمفهوم “الإرهاب” و”التطرف”.

  1. غياب الثبات المفاهيمي:
    تتسم تصنيفات “الإرهاب” و”التطرف” بعدم الثبات، إذ تتغير وفق السياقات الدولية والظرفيات السياسية. فالشخصية ذاتها يمكن أن تنتقل من خانة “الإرهابي العالمي” إلى خانة “الفاعل السياسي” بناءً على التحولات في موازين القوى أو تبدل مصالح الفاعلين الدوليين.

على سبيل المثال، جرى تصنيف أبي محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة في سوريا، كـ”إرهابي عالمي” سنة 2013 من قبل وزارة الخارجية الأميركية، غير أن ذلك لم يمنعه لاحقًا من الظهور في مقابلات مع صحفيين أميركيين وأوروبيين لتقديم نفسه كفاعل محلي يسعى إلى بناء مشروع سياسي في الشمال السوري.

المثال الأبرز هو حركة طالبان التي كانت إلى وقت قريب تُعتبر العدو الأشد شراسة للولايات المتحدة وحلفائها، قبل أن تتحول بعد 2021 إلى سلطة سياسية شرعية بحكم الأمر الواقع، وتجلس على طاولة المفاوضات في الدوحة مع ممثلي واشنطن.

  1. المعايير الغربية المتحركة:
    يبرز هنا أن الغرب لا يُعرّف الإرهاب وفق أسس أخلاقية أو حقوقية ثابتة، بل انطلاقًا من حسابات القوة ومصالح الأمن القومي. ومن ثمّ، يظل التصنيف أداة سياسية أكثر منه توصيفًا قانونيًا أو علميًا.

فالحركات التي تنجح في فرض نفسها عسكريًا أو سياسيًا على الأرض تُعامل غالبًا بوصفها طرفًا شرعيًا، كما حدث مع طالبان بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.

في المقابل، تظل التنظيمات التي لم تحقق انتصارات ميدانية أو لا تشكل ضرورة استراتيجية للغرب في موقع “التنظيمات الإرهابية”، مثل القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، اللذين ما زالا يُدرجان في اللوائح السوداء الدولية دون أي أفق لمراجعة وضعهما.

  1. الأثر على البحث الأكاديمي والسياسات العامة:
    إن هذه الازدواجية في التصنيف تطرح تحديًا أمام الباحثين، إذ تجعل دراسة الإرهاب أسيرة للتقلبات السياسية بدل أن تكون مؤسسة على معايير علمية وقانونية مستقرة. كما أنها تثير تساؤلات حول مشروعية الجهود الدولية في “مكافحة الإرهاب”، حيث تغدو أداة لتصفية الحسابات أو إعادة هندسة التوازنات الإقليمية والدولية، بدل أن تكون مقاربة موضوعية لحماية المدنيين وتعزيز الاستقرار.

وبذلك يمكن القول إن “أزمة التصنيف” تكشف عن الطبيعة المرنة والبراغماتية لمفهوم الإرهاب في السياسة الدولية، حيث لا يحددها جوهر الظاهرة فحسب، بل أيضًا سياق القوة والمصالح التي تتحكم في النظام العالمي.

المحور الثاني: الجولاني نموذجا لتحولات الجهادية المحلية

1. من الجهاد العالمي إلى “المحلية”

بدأ أبو محمد الجولاني مسيرته في سوريا ضمن إطار الانتماء إلى “الجهاد العالمي” من خلال البيعة لتنظيم القاعدة وزعيمها أيمن الظواهري. هذا الانتماء وفّر له شرعية مبدئية بين الفصائل الجهادية ومقاتلين عابرين للحدود، لكنه سرعان ما وجد نفسه أمام تحديات بنيوية تتعلق بطبيعة الساحة السورية، إذ لم يكن المجتمع المحلي مستعدًا لتحمل كلفة مشروع “الجهاد العالمي”.
مع بروز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كفاعل مهيمن عام 2013–2014، رفض الجولاني الانضواء تحت قيادته. هذا الرفض لم يكن مجرد خلاف تنظيمي، بل كان انعكاسًا لوعي متزايد بخصوصية الساحة السورية، وخشية من ذوبان مشروعه تحت مركزية “الخلافة”. لاحقًا، انتقل إلى تأسيس “جبهة النصرة” ثم “جبهة فتح الشام”، وصولًا إلى “هيئة تحرير الشام”، مقدّمًا نفسه كفاعل محلي يسعى إلى إدارة محافظة إدلب، وترسيخ حضور سياسي واجتماعي من خلال مؤسسات مدنية وأمنية. هذه التحولات تعكس انزياحًا من “الأممية الجهادية” إلى “المحلية “.

2. التحول في الخطاب والرمزية

التحول الأبرز في تجربة الجولاني تمثل في إعادة تشكيل صورته ورمزيته أمام جمهوره. فمن قائد عسكري ملتحٍ بلباس ميداني يحيط به المقاتلون، إلى شخصية تظهر في مقابلات إعلامية مرتدية زيًا مدنيًا أقرب إلى السياسيين المحليين. هذه الرمزية لم تكن شكلية فقط، بل مثّلت إعادة إنتاج لخطاب الحركة.
فبعدما كان الخطاب يتمحور حول “الأمة الإسلامية” و”مقارعة الغرب”، بدأ يركّز على “الحكامة الرشيدة”، “إدارة الخدمات”، و”الحفاظ على الأمن”. ومع ذلك، لم يتخلّ عن جذوره الجهادية، لكنه أعاد توظيفها لإضفاء شرعية دينية على مشروع محلي. اللافت أن هيئة تحرير الشام أصبحت تستمد شرعيتها من المجتمع المحلي السوري أكثر مما تستمدها من أي مرجعية خارجية، سواء كانت القاعدة أو غيرها. هذا التحول في الخطاب والرمزية يعكس قدرة على التكيف مع البيئة الجديدة، وعلى الاستثمار في مفاهيم الشرعية المحلية بدل التبعية للأطر الأممية.

3. البعد الاستراتيجي

التحولات التي قادها الجولاني لا يمكن فهمها بمعزل عن قراءة التجربة الأفغانية. فقد بدا واضحًا أن هيئة تحرير الشام حاولت الاستفادة من دروس طالبان: أن النجاح الاستراتيجي لأي حركة جهادية لا يتحقق من خلال الاصطدام الدائم بالقوى الدولية، وإنما عبر ترسيخ تمكين محلي، والسيطرة الفعلية على الأرض، وبناء جهاز إداري يُظهر الحركة بوصفها “حاكماً” لا “فصيلاً متمردًا”.
فمن خلال بناء مؤسسات مثل “حكومة الإنقاذ”، والسعي إلى إدارة ملفات حساسة كالتعليم، والاقتصاد، والأمن، يحاول الجولاني أن يغيّر صورته من “إرهابي” على قوائم مجلس الأمن إلى “زعيم محلي” يملك القدرة على التفاوض وضبط الجغرافيا. هذه البراغماتية الاستراتيجية جعلت من تجربة إدلب مختبراً لتجربة “الجهادية المحلية”، حيث يتقاطع البعد العسكري مع البعد الإداري والسياسي في مشروع واحد.

المحور الثالث: مفهوم التمكين كمدخل لفهم إعادة تعريف الإرهاب

1. التمكين شرط الاعتراف

مفهوم التمكين في الأدبيات الجهادية لا يقتصر على المعنى الديني أو الشرعي الذي يرتبط بإقامة “الدولة الإسلامية”، بل أصبح أيضًا أداة سياسية لفهم تحولات علاقة الغرب بالجماعات المسلحة. فالمعايير الغربية في توصيف “الإرهاب” لا تبقى ثابتة، وإنما تتأثر بقدرة الفاعل على البقاء والاستمرار في السيطرة على الأرض. وهذا يعني أن الجماعات التي تتمكن من فرض حضور سياسي–عسكري واقعي على الأرض، وتنجح في بناء هياكل إدارة ولو أولية، تصبح في نظر الغرب أمرًا واقعًا لا يمكن تجاوزه.

تاريخيًا، تعاملت القوى الكبرى مع جماعات مسلحة كانت مصنفة في خانة “الإرهاب”، لكن بعد تحقيقها شرط التمكين (السيطرة على الأرض، القدرة على الإدارة، اكتساب شرعية محلية)، أعيد النظر في هذه التصنيفات. فالاعتراف هنا ليس بالضرورة اعترافًا قانونيًا أو دبلوماسيًا رسميًا، وإنما هو اعتراف ضمني بفاعلية الجماعة في المعادلة الإقليمية، وهو ما يفرض تغييرات تدريجية في مقاربة هذه الفواعل.

2. التغيير في المواقف الغربية

التجارب العملية أظهرت أن الغرب، رغم شعاراته المبدئية حول “محاربة الإرهاب”، ينتهج مقاربة براغماتية حين تفرض الوقائع الميدانية نفسها. فعندما تفشل سياسات العزل أو الحرب المباشرة في القضاء على جماعة ما، تبدأ عملية انتقال تدريجي في الخطاب الغربي:

  • المرحلة الأولى: العزل الكامل ورفض أي شكل من أشكال التواصل.
  • المرحلة الثانية: الإقرار بوجود الجماعة كقوة محلية مؤثرة، ولو من باب الواقعية السياسية.
  • المرحلة الثالثة: الدخول في قنوات اتصال غير مباشرة، غالبًا عبر وسطاء إقليميين أو منظمات إنسانية.
  • المرحلة الرابعة: القبول بالتفاوض المباشر، أحيانًا تحت مسمى “حوار أمني” أو “تسوية سياسية”.

المثال الأبرز هو طالبان: فقد كانت منذ 2001 تُعتبر في الخطاب الغربي رمزًا مطلقًا لـ”الإرهاب”، لكن بعد عشرين عامًا من الحرب ونجاحها في الصمود وإعادة السيطرة على الأرض، وجدت الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التفاوض معها، وهو ما تُوج باتفاق الدوحة (2020). هذا التحول يكشف أن التمكين يسبق الاعتراف، وأن المواقف الغربية ليست محكومة بثوابت قيمية بقدر ما تحكمها موازين القوة.
وعليه، “فإن جماعات أخرى – مثل هيئة تحرير الشام – عندما نجحت في ترسيخ نفسها كسلطة أمر واقع، سارع الغرب إلى فتح قنوات تواصل معها، بل وتهيئة الطريق أمامها، متراجعًا عن توصيفها السابق كتنظيم إرهابي، سواء في حق الهيئة نفسها أو زعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني.

3. سقوط ثوابت المفاهيم

إن التجربة مع طالبان وغيرها تضعنا أمام إعادة نظر في مفهوم “الإرهاب” ذاته. فالمصطلح ليس توصيفًا قانونيًا صرفًا، بل هو في جوهره أداة سياسية تُستخدم لتجريم الخصم ونزع الشرعية عنه. وعندما يحقق هذا الخصم التمكين، تتعرض هذه الأداة للتآكل وفقدان المصداقية.

هنا تبرز صورة “قطع الدومينو”: بمجرد أن يُعاد تعريف جماعة مصنفة “إرهابية” باعتبارها “شريكًا محتملاً”، ينفتح الباب أمام إعادة تعريف جماعات أخرى وفق المنطق نفسه. فقد أدى الاعتراف الضمني بطالبان إلى زعزعة ما كان يُعتبر سابقًا “ثوابت” في سياسات مكافحة الإرهاب، وهو ما قد يفتح المجال مستقبلًا لإعادة النظر في تصنيفات أخرى.

وبهذا المعنى، يصبح الإرهاب مفهومًا مرنًا، لا يُعرّف بمرجعية أخلاقية أو قانونية ثابتة، وإنما يخضع لإعادة صياغة مستمرة بحسب موازين القوى والتحولات الدولية. إن هذا التغيير الجذري يكشف حدود الخطاب الغربي حول “القيم العالمية”، ويُظهر أن القوة والتمكين على الأرض هما المحددان الأساسيان لأي عملية إعادة تعريف.

مفهوم التمكين يشكل عدسة تفسيرية مركزية لفهم كيف تعيد القوى الكبرى صياغة تعريفاتها للإرهاب. فالتصنيفات ليست مطلقة، وإنما هي سياسية–براجماتية تتحرك مع ميزان القوة على الأرض. وعليه، فإن مسار طالبان لا يمثل نهاية استثنائية، بل هو نموذج قد يتكرر مع جماعات أخرى كلما حققت “شرط التمكين”، ما يعني أن خريطة الإرهاب العالمي ليست نهائية بل في حالة إعادة تشكيل مستمرة.

المحور الرابع: تداعيات أكاديمية ومفاهيمية

1. على الباحثين: إعادة تعريف مفهوم الإرهاب

أصبح من الضروري على الباحثين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية إعادة النظر في مفهوم الإرهاب الذي ظل لعقود يُقدَّم باعتباره توصيفًا قانونيًا أو أخلاقيًا ثابتًا. الواقع يكشف أن هذا المفهوم لا يُستخدم كأداة وصفية محايدة، بل كآلية سياسية متغيرة يتم توظيفها وفقًا لموازين القوى والمصالح الدولية.

  • من الإطلاق إلى النسبية: لم يعد بالإمكان التعامل مع “الإرهاب” بوصفه تصنيفًا موضوعيًا قائمًا على معيار أخلاقي أو قانوني؛ بل بات أقرب إلى تصنيف سياسي تُحدده مواقع القوى، ومدى قدرة الفاعلين على فرض أنفسهم كأطراف في المعادلة.
  • تداعيات على البحث الأكاديمي: هذا يفرض على الدراسات الأكاديمية الانتقال من التحليل المعياري إلى التحليل البنائي-السياسي) الذي يدرس كيف يُعاد تشكيل المفاهيم في سياق الصراع، وكيف تتحول بعض الجماعات من “إرهابية” إلى “شريكة محتملة” بمجرد أن تتوافر لها القدرة على البقاء وبسط السيطرة.

2. على السياسات الدولية: ازدواجية المعايير

التحولات في الموقف الغربي من بعض الحركات الإسلامية المسلحة –كما في حالة “هيئة تحرير الشام” أو “طالبان”– تكشف استمرار ظاهرة ازدواجية المعايير في السياسات الدولية.

  • الانتقائية في التصنيف: الغرب لم يعد يتعامل مع جميع الجماعات بمعيار واحد؛ فالجماعة التي تستمر وتنجح في فرض نفسها كسلطة أمر واقع قد تتحول إلى شريك سياسي، في حين تستمر أخرى في مواجهة العزل والتجريم.
  • البعد الجيوسياسي: إعادة تعريف الإرهاب غالبًا ما يتصل بحسابات ميدانية: من يملك السيطرة على الأرض؟ من يمكن أن يضمن استقرار منطقة ما؟ من قد يساهم في تقليص نفوذ الخصوم (روسيا، إيران، الصين)؟
  • تأثيرات ذلك: هذه الازدواجية تعمّق أزمة الشرعية في المنظومة الدولية، إذ تكشف أن معايير “محاربة الإرهاب” ليست قيمية أو قانونية بل مصالحية، ما يجعل الدول والفاعلين المحليين أكثر وعيًا بمرونة هذه المعايير وقابليتها للتفاوض.

3. على الحركات الإسلامية المسلحة: براغماتية متنامية

إدراك الحركات المسلحة لهذه الدينامية المفاهيمية والسياسية دفعها إلى إعادة صياغة خطابها واستراتيجياتها.

من الجهادية إلى المحلية: كثير من هذه الحركات، التي تبنّت سابقًا خطابًا جهاديًا عالميًا، بدأت في إعادة تعريف نفسها كحركات محلية ذات أجندة سياسية/اجتماعية مرتبطة بالسياق الوطني (كما فعلت طالبان أو هيئة تحرير الشام).

  • إنتاج خطاب براغماتي: التركيز على مفاهيم مثل “الحكم الرشيد”، “الإدارة المدنية”، و”التعايش المحلي” أصبح وسيلة لتجاوز وصمة “الإرهاب” واستقطاب القبول الدولي.
  • التحول المؤسسي: بعض هذه الجماعات لم تعد تكتفي بخطاب سياسي جديد، بل بدأت في بناء مؤسسات حكم محلية، قضاء شرعي/مدني، وأجهزة خدمية، لتثبيت حضورها بوصفها سلطات أمر واقع، وهو ما يجعل تصنيفها في خانة “الإرهاب” أكثر صعوبة مع مرور الوقت.

4. البعد المفاهيمي العام: نحو “تسييس الإرهاب”

التحولات الراهنة تفرض على الدارسين والفاعلين النظر إلى “الإرهاب” لا بوصفه مفهومًا قانونيًا دوليًا واضح المعالم، بل باعتباره أداة سياسية وظيفتها ضبط التفاعلات بين القوى الكبرى والفاعلين من غير الدول.

التحول من التوصيف إلى الأداة: أصبح المفهوم جزءًا من لغة الصراع السياسي والدبلوماسي، يتم توظيفه لإقصاء أو احتواء فاعلين حسب الحاجة.

انعكاس على النظام الدولي: ما نشهده اليوم قد يُسهم في تآكل شرعية منظومة “مكافحة الإرهاب الدولية” التي تأسست بعد 11 سبتمبر، ويؤشر إلى مرحلة جديدة يُعاد فيها تعريف الشرعية استنادًا إلى “القدرة على البقاء” أكثر من “المعايير القانونية”.

خاتمة

تكشف تجربة الجولاني أن “الإرهاب” ليس هوية ثابتة بل تصنيف سياسي قابل للتحول، وأن الغرب يتعامل معه على أساس منطق القوة والتمكين لا على أساس القيم المعلنة. فما كان “إرهابيًا” قد يصبح “حاكمًا شرعيًا” إذا نجح في فرض سلطته. ومن هنا تأتي الحاجة الأكاديمية إلى إعادة تفكيك مفهوم الإرهاب وربطه بالتحولات الواقعية للحركات المسلحة، بدل حصره في القوالب الجاهزة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *