منتدى العمق

غيثة: وهج البراءة في عتمة الهمجية.

 

في واقعة تفيض بدلالات المحنة الإجتماعية، وتخفي في داخل بنيتها الظاهرية شحنة مركبة من الاشارات النفسية والثقافية، كانت هناك طفلة تسمى غيثة هي البتلة التي تزين بستان حياة والديها بنقاء وبراءة لا تنضب، تلهو في فضاء ساحلي مفتوح على الأمل، و في طرفة عين لا تلبث أن تذوب كوميض البرق، وبدفقة خاطفة تخطف الأنفاس، صارت غيثة ضحية فعل لم يكن همجي فحسب في تمظهره المادي، بل هو ارتكاس الى طور البهيمية والوحشية البدائية فيما استبطنه من دلالات طبقية واستعلاء وغطرسة، حين أصبح فعل الاصطدام الجسدي، صدمة كيانية تمس تخوم الكرامة، وتعيد طرح سؤال العدالة في صيغته الأخلاقية لا القانونية فقط.

ليست الواقعة في ذاتها مجرد واقعة عارضة، بل هي نقطة تقاطع حادة بين ظهور نماذج من السلوك الفردي المنفلت من رقابة الضمير الاجتماعي، وبين بروز خطاب ضمني قائم على تفاوت صارخ في تمثلات القوة والحق. فالعبارة التي انفجرت في أركان هذه الحادثة و هي”حنا عندنا الفلوس”، و التي تقيأها أحد أقارب السائق (المتهم) كما جاء على لسان والد الطفلة غيثة، تعبر بدقة أوفى على التمثل الفج لمنطق الامتياز، وتخرج حركة الخطاب العمومي إلى ضوء أحد أخطر الأنساق المضمرة التي تهدد الفضاء الاجتماعي والتي تؤسس لفعل الهيمنة الناعمة، أي القدرة على احتواء المحاسبة وتحويل المسؤولية إلى أمر تفاوضي يخضع لمنطق المال بدل المبدأ.

إن البنية العميقة لهذا المشهد تفصح عن تفكك نسقي في منظومة إدراك العدالة لدى بعض المواطنين الذين يقبعون في دهاليز اللا إنسانية و المنتمين إلى فضاءات الامتياز، حيث تغدو الكارثة في معاجمهم قابلة للتأطير داخل منطق مرن في التقدير وخاضع للتعويض المادي، ويصبح الألم مختزلا في قيمة نقدية، بينما يتم تحييد البعد الأخلاقي للفعل، وتجري محاولات إعادة تأويله وفق موازين القوة لا ضمن معايير الإنصاف.
في الجهة المقابلة هناك نجد والد الطفلة غيثة، الذي ظل صوته عفيفا، لا يعرف ضجيج الصراخ، ولم ينزلق إلى رطانة الاتهام، لكي يكون في هذا الوضع صوت النبل المظلوم الذين لم يتسلح إلا بالكرامة و النفس الطيبة، وأصبح  يواجه الألم بالصمت، لا خضوعا، بل إيمانا بأن للمؤسسات سلطة الإنصاف و العدل، وأن الدولة بمؤسساتها التي تسهر على إنفاذ القانون، لا تزال و ستظل الإطار الضامن و الحافظ لعدالة غير قابلة للمساومة.
إن هذا الأب المثقل بالوجع، في تمسكه بخطاب العدالة، لا يطلب انتقاما، بل يؤكد استحقاق ابنته لاعتراف أخلاقي يسبق أي تعويض مادي، ويطالب بإعادة تشكيل الوعي الجمعي حول القداسة المطلقة لبراءة الطفولة.

وبالعودة إلى النظريات الكلاسيكية في علم الاجتماع التي تناولت أشكال الهيمنة غير المادية، يمكن القول على أن هذه الواقعة تجسد تمردا على سلطة معنوية مترسخة، حين تجابهها الضحية في شخص الأب من موقع خال من الوسائل العينية للدفاع أو المقاومة، لكنها في المقابل مشحونة  برأسمال الكرامة، الذي لا يباع ولايشترى، بل يستمد من عدالة القضية ومشروعية الألم.

كما يمكن تأويل هذه الواقعة المؤلمة ضمن أطر التحليل السوسيولوجي التي استقصت ديناميات الوصم الاجتماعي وآليات إعادة إنتاج المعاني في سياق الأزمات الجماعية، إذ تكشف الممارسات والخطابات التي أعقبت هذا الحادث عن نزوع جماعي نحو تطبيع الخلل البنيوي وترويض الوعي العام لقبوله كقدر محتوم لا يستدعي المساءلة. فالجاني، بدل أن تتم مواجهته بما ارتكبه من فعل ذي طابع مأسوي، يعاد تقديمه بوصفه ضحية لخلل لحظي أو لالتباس ظرفي، في محاولة لإعادة تأطير الحدث ضمن سردية تزيل عنه صفة الإثم وتنزله منزلة البراءة المصادفة.

و في هذا الفعل نوع من الضغط المضاعف على أب الطفلة
الذي طلب منه أن يقر بما وقع على أنه قضاء إلهي لا ظلم بشري، وأن يخضع لمنطق التواطؤ الصامت الذي يحتمي بمقولات الاستكانة الدينية ويتقنع بقناع الخنوع الاجتماعي. وهذه العملية لا أراها تندرج ضمن منطق التعاطف، بقدر ما تؤشر إلى اشتغال آلية دفاعية جماعية تروم بناء صورة مريحة للجاني تتيح طمس آثار الفعل الإجرامي، وتعمل، في الوقت ذاته، على إنتاج خطاب إنكاري يخفي اللامبالاة المجتمعية خلف واجهة  النفوذ و الغطرسة. و ما يجري هنا ليس مجرد تبرير فردي، بل هو جزء من منطق اجتماعي معقد يشتغل عبر دوائر  النفوذ المالي و الاستبداد، حيث تتم محاولة توجيه الرأي العام وتشذيبه وفق ما يناسب مصالح الفئات المهيمنة، وهو ما يجعل من الجرح مزدوجا بين الظلم والإنكار وهي تجربة وجودية عسيرة التأويل والالتئام.

إن ما تقتضيه اللحظة الراهنة إزاء هذا الحدث الفاجع، هو أن نعيد صياغة ميثاق أخلاقي جماعي يبتر التطبيع مع المأساة، ويقصي خطاب التفوق الذي يتوسل المال لتبرير المهانة. وليس المطلوب هنا تشكيكا في الدولة، ولا نزعا للثقة في المؤسسات، بل على العكس من ذلك لأن ما يعطي لهذه القضية قوتها الايمائية هو كونها تصدر من رحم الإيمان العميق بأن العدالة ليست امتيازا، بل قاعدة تأسيسية للحياة المشتركة.
وأن نداء العدالة في قضية الطفلة غيثة يعلو فوق كل اعتبار، ويستدعي استنفار الضمير الجماعي، كما انه ليست مجرد مطلب أسري، بل امتحان للضمير المجتمعي بأسره. وهي لحظة اختبار نادرة لمدى قدرتنا على استيعاب حدود الألم، وقياس درجة نضجنا الجمعي في التفريق بين السلطة الأخلاقية وبين أدوات التأثير المادي. وهي كذلك نداء لاسترجاع مركزية القيم، في زمن يراد فيه للكرامة أن تقايض، وللحياة أن تساوم.
فهذه الطفلة البريئة، في الاسقاط المعنوي، ليست جسدا صغيرا وقع عليه الضرر فقط، بل هي صورة مكثفة لبراءة المجتمع حين يتم دهسها، بعجلات التهور والتعالي.

عماد بوعسيلة.